هل تحتفظ دمشق بحق الصمت أم بحق الرد على الاعتداءات التركية
يخيّم صمت مريب على حكومة دمشق منذ أعوم، على الرغم من احتلال تركيا لعدد كبير من المدن والمناطق السورية وقيامها بعمليات التغيير الديمغرافي وسياسة التتريك في المناطق التي تحتلها، وما يتعرض له الجنود السوريون من مجازر مروعة.
في 16 آب الماضي، أغارت الطائرات الحربية التركية لأول مرة على مواقع لقوات حكومة دمشق، وقتلت عدداً كبيراً من منهم جراء 8 غارات متتالية في تصعيد كبير لأنقرة في ريف مقاطعة كوباني في شمال وشرق سوريا.
التصعيد التركي هذا، قابله صمت رهيب لحكومة دمشق التي أبت إلا أن تحافظ على العلاقة التي تشهد تقارباً خلال الآونة الأخيرة، لكن السخط الشعبي الكبير في مناطق سيطرة حكومة دمشق أجبر الأخيرة على الاعتراف بمقتل جنود سوريين في قصف جوي تركي.
وفي أفضل الأحوال تزعم حكومة دمشق أنها تحتفظ بحق الرد على الاعتداءات التي تستهدف الأراضي السورية، لكن هذا الحق لم يُترجم إلى فعل منذ عام 6 تشرين الأول عام 1973 حين خاض الجيش السوري حرباً ضد إسرائيل. حتى تلك الحرب تحوم الكثير من الشكوك حول أهدافها الحقيقية.
دمشق تتغاضى عن مئات الأحداث ويدفع فاتورتها السوريون
كانت تلك من بين مئات الأحداث التي تتغاضى عنها حكومة دمشق ويدفع فاتورتها السوريون على مدى 6 أعوامٍ من دخول تركيا المباشر على خط الأزمة في سوريا، بعد أن كانت تحرك وكلاءها من داعش وجبهة النصرة لأعوام، والذين فشلوا في إنجاح مخططات أنقرة.
ففي 20 كانون الثاني عام 2018، شنت دولة الاحتلال التركي والمرتزقة السوريون عدواناً هو الأكبر خارجياً، ضد الأراضي السورية منذ عام 1967، إبان احتلال إسرائيل لهضبة الجولان جنوب سوريا، حيث نفذ آلاف المرتزقة والجنود الأتراك هجوماً استهدف مقاطعة عفرين أقصى شمال غرب سوريا، بعد انسحاب القوات الروسية من عدة مواقع لها في المقاطعة، لتحتلها تركيا عقب مقاومة تاريخية لوحدات حماية الشعب والمرأة لـ 58 يوماً.
لم يخلق هذا الهجوم الكبير أي رد فعل من حكومة دمشق ضد احتلال إحدى أهم المناطق السورية، بغض النظر عن إرسال دمشق لعدد من المقاتلين ممن يسمون باللجان الشعبية، والذين قُتلوا بالعشرات بفعل الغارات التركية دون أن تكترث حكومة دمشق للأمر.
فدمشق التي رحبت بسلسلة لقاءات أستانا وسوتشي بين الثلاثي، روسيا وإيران وتركيا، لم يزعجها الدخول التركي قبل معركة عفرين إلى الأراضي السورية صيف عام 2016 في الذكرى السنوية 500 لمعركة مرج دابق الشهيرة التي شكلت بوابة دخول العثمانيين إلى بلاد الشام، حيث احتلت تركيا عدداً من المدن أهمها جرابلس والباب وإعزاز، وعشرات البلدات والقرى السورية بذرائع واهية كمحاربة داعش.
عقب ذلك بأعوام، انسحبت أمريكا وفتحت المجال أمام دولة الاحتلال التركي لارتكاب مجازر بحق السوريين في منطقتي سري كانيه وكري سبي خلال العدوان التركي الذي بدأ في 9 تشرين الأول عام 2019، واستمرت المعارك 13 يوماً، أبدت خلالها قوات سوريا الديمقراطية مقاومة كبيرة، واحتل جيش الاحتلال التركي الذي استقدم آلاف المرتزقة واستخدم أسلحة محرمة دولياً سري كانيه وكري سبي وأراضٍ سورية ممتدة بطول 120 كم وبعمق 30 كم، لتصل مساحة الأراضي التي احتلتها تركيا في سوريا إلى أكثر من 8800 كم مربع، أي ما يعادل 5 % من الأراضي السورية.
لم تؤدّ حكومة دمشق أي دورٍ للوقوف في وجه الاحتلال التركي، أو حتى التنديد بدخول قوة محتلة غازية إلى الأراضي السورية.
في 22 تشرين الثاني عام 2019، وافقت قوات سوريا الديمقراطية على الابتعاد عن الشريط الحدودي لنزع الذرائع التركية التي تتحدث عن تهديد “أمنها القومي”، وبالتالي وافقت روسيا التي نسقت مع قسد على نشر قوات لحكومة دمشق على طول خطوط التماس بين مناطق الإدارة الذاتية والمناطق التي تحتلها تركيا.
خلال 3 أعوام، قصفت القواعد التركية المنتشرة في شمال وشرق سوريا عشرات النقاط لقوات حكومة دمشق؛ قتل على أثرها العشرات، كان أبرزها قصف جوي تركي في شباط 2020، أوقع 48 قتيلاً من الجنود السوريين في منطقة إدلب بحسب المرصد السوري، رداً على مقتل جنود أتراك بواسطة طائرات روسية، وعلى الرغم من كل ذلك، لم ترد دمشق على القوات التركية داخل الأراضي السورية حتى اللحظة لا سياسياً ولا عسكرياً.
المسؤولون الأتراك صرّحوا مراراً وتكراراً، أن العلاقات الاستخباراتية بين دمشق وأنقرة لم تنقطع نهائياً منذ 2011، وهذا ما يوضح عدم تحرك دمشق في وجه تحركات أنقرة، وأن ما تفعله تركيا يقع في إطار الهدف نفسه وهو القضاء على الإدارة الذاتية والمشروع الديمقراطي في شمال وشرق سوريا، حتى ولو كان ذلك بفقدان مئات الجنود السوريين لحياتهم، فلا يشكل ذلك مشكلة لدى حكومة دمشق.
وخاصة أن دمشق وأنقرة لا تزالان تلتزمان باتفاقية أضنة التي تسمح لتركيا بدخول الأراضي السورية وإطلاق عمليات عسكرية ضد إرادة الشعب الكردي وحزب العمال الكردستاني.
وبعيداً عن المجال العسكري، لم تندد حكومة دمشق خلال السنوات الماضية، ولو بكلمة، حول سرقة تركيا لحصة سوريا من نهر الفرات، حيث انخفض منسوب النهر إلى مستويات تاريخية كارثية تهدد حياة الملايين من السوريين.
سلخ الأراضي السورية على غرار لواء اسكندرون
أجبرت دولة الاحتلال التركي عام 1998، من خلال اتفاقية أضنة التي وقّعت سراً بين وفد حكومة دمشق ووفد أنقرة في مدينة أضنة؛ الدولة السورية على التنازل عن المطالبة بالأراضي السورية المحتلة، لواء اسكندرون، واعتبار جميع الخلافات الحدودية منتهية بموجب ذلك الاتفاق، وذلك ما وافقت عليه دمشق.
حيث كان لواء اسكندرون إحدى المحافظات السورية التي عاصرت الجمهورية السورية الأولى 1938 خلال فترة الانتداب الفرنسي، قبل أن تنسحب منها فرنسا وتدخلها القوات التركية وتسيطر عليها 1939 وتسلخها عن الأراضي السورية.
تشير المعطيات والمعلومات التي حصلت عليها وكالتنا، خلال ثلاثة أعوام، إلى أن المنطقة الممتدة من مدينة سري كانيه/ رأس العين حتى كري سبي/ تل أبيض شمال سوريا، تشهد أكبر عملية تثبيت للقواعد العسكرية في منطقة سوريّة من قبل جيش الاحتلال التركي. حيث بدأ عمليات بناء القواعد العسكرية، عقب احتلاله لها، بعد تهجير ما يقارب 300 ألف مواطن منها، خلال عدوان الاحتلال التركي والمجموعات المرتزقة التابعة عليها في تشرين الأول 2019.
أكثر من 52 قاعدة عسكرية
وفقاً لعمليات التوثيق التي قامت بها وكالتنا، توجد أكثر من 52 قاعدة عسكرية مجهزة بأنواع مختلفة من الأسلحة المتوسطة والثقيلة وبداخلها آلاف الجنود الأتراك في المنطقة الممتدة على طول 120 كم وعمق 30 كم.
حدود مصطنعة وقواعد عسكرية تكشف حقيقة النوايا التركية
قبل أشهر من الآن، أنهى الاحتلال التركي بناء حدودٍ مصطنعة بطول 230 كم داخل الأراضي السورية، وذلك عبر حفر خندق بعمق 4 أمتار في عملية عزل لمناطق كري سبي وسري كانيه المحتلة بالكامل ضمن مساعي القوات التركية لتأمين المناطق الواقعة شمال الطريق الدولي M4 الذي يربط مناطق شمال شرق سوريا بغربها.
ومع اكتمال حفر الخندق واستمرار عملية بناء القواعد العسكرية، تكثر الشكوك حول نوايا تركيا الحقيقية من وجودها على الأراضي السورية.
إذ تشير المعطيات على الأرض إلى أن تركيا تحضّر للبقاء طويلاً في سوريا، هذا إلى جانب أن الإجراءات التركية في المناطق السورية المحتلة تكشف بأنها تعمل فعلياً على تحويل تلك المناطق إلى مناطق تركية.
وبالنظر إلى تركيز تركيا على تغيير ديمغرافية المنطقة وتتريكها عبر فرض اللغة التركية واعتمادها كلغة رسمية وفرض التعامل بالليرة التركية، يتفق المراقبون على أن تركيا تحتفظ لنفسها بأطماع ضم تلك الأراضي إلى دولتها.
مستقبل خطير ينتظر المناطق السورية المحتلة
مع استمرار عمليات بناء القواعد التركية في عمق الأراضي السورية، وتجهيزها بالرادارات والدبابات والصواريخ وكاميرات المراقبة الحرارية، وتعزيزها بالجنود والمدرعات، ومع استمرار عمليات التغيير الديمغرافي عبر تهجير السكان الأصليين وتوطين أسر المرتزقة وأسر سورية أخرى موالين لتركيا، واستمرار عمليات التتريك مع رفع العلم التركي والتعامل بالليرة التركية ورفع صور الرئيس الفاشي في الشوارع والمرافق العامة، تواجه المناطق المحتلة تهديداً حقيقياً يتمثل بسلخها عن سوريا وضمها إلى دولة الاحتلال التركي.
إلى جانب ذلك، فإن تركيا دائماً تسعى إلى تمهيد الطريق أمام احتلال المزيد من المناطق السورية في سياق خططها لإعادة إحياء الميثاق الملّي الذي يقضي، وفق الرؤية التركية، بضرورة احتلال كامل جغرافيا الشمال السوري.
المصدر: ANHA.