خلال أسبوعين فقط حدث انقلاب في السياسات الاقتصادية التركية بعد الإطاحة بمحافظ البنك المركزي واستقالة وزير المالية بيرات البيرق صهر الرئيس التركي. إذ كانت السياسات الجديدة على النقيض تماما مما كان يؤمن به ويدعو إليه أردوغان. ولم يقتصر الأمر على السياسة الاقتصادية، بل إن هناك ما يبدو أنه توجه أو على الأقل لغة جديدة في التعاطي مع السياسة الخارجية وخاصة الخلافات مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة حيث التهديد بفرض عقوبات اقتصادية على تركيا.
ففي مجال السياسة الاقتصادية وفي أول اجتماع للجنة السياسة النقدية بالبنك المركزي التركي في عهد محافظه الجديدة ناجي إقبال تم رفع سعر الفائدة الأساسي بمقدار 4.75% ليصل إلى 15%، وبما يخالف السياسة التي كانت متبعة مسبقا تحت تأثير الرئيس التركي والتي كانت ترى أن ارتفاع أسعار الفائدة هو السبب في ارتفاع التضخم على خلاف كافة النظريات والممارسات. وتعهد الرئيس التركي بدعم مسؤوليه الاقتصاديين الجدد في اتخاذ سياسات من شأنها توفير الراحة للمستثمرين وبعد انخفاض الليرة إلى مستويات قياسية. وإن كان الرئيس التركي نفسه قبل اجتماع لجنة السياسة النقدية بيوم واحد قد جدد تحذيراته من العبء الذي تفرضه معدلات الفائدة الأعلى على الاقتصاد. وعاد الرئيس التركي بعد قرار رفع الفائدة بيوم واحد إلى التأكيد من جديد على وجهة نظره بأن “ارتفاع سعر الفائدة هو سبب التضخم” وتطرق إلى قرار البنك المركزي قائلا “ندرك أنه يتعين علينا تجرع بعض الأدوية المرة في هذه المرحلة عند الحاجة” وأضاف “أقيم قرار رفع الفائدة الذي اتخذ أمس في هذا الإطار”.
وقال البنك المركزي في بيانه الصادر بعد الاجتماع “إنه سيأخذ في اعتباره، خلال الفترة المقبلة جميع العوامل التي تؤثر على التضخم، وسيحافظ على تشديد السياسة النقدية بشكل حاسم، حتى يتحقق انخفاض دائم في التضخم”. وأضاف البيان أن “التأسيس الدائم لبيئة تضخم منخفضة سيؤثر بشكل إيجابي على الاقتصاد الكلي والاستقرار المالي، من خلال انخفاض علاوة مخاطر البلد، وعكس اتجاه الدولرة وتراكم احتياطيات النقد”.
أخذت تركيا خطوة أخرى تجاه إدارة سياستها الاقتصادية الفاشلة، وتمثلت بإلغاء قاعدة كانت ترغم المقرضين على تقديم القروض وشراء الدين الحكومي. وبعد أسبوعين من الاتجاه نحو إصلاح عملية صنع القرار الاقتصادي التركي، قال المسؤول عن عملية تنظيم العمل المصرفي يوم الثلاثاء الماضي أنه سوف يتم إلغاء ما يعرف بقاعدة نسبة الأصول بدءا من 31 ديسمبر المقبل.
وكانت هذه القاعدة التي تم تقديمها في أوائل هذا العام والتي حاولت السلطات عن طريقها دفع سياسات التحفيز الاقتصادي قد أطلقت فورة الإقراض من عقالها. واستمر الاقتصاد التركي في الاعتماد على الاقتراض لتسيير أموره وهو ما يعتمد عليه في الحقيقة منذ ثلاثة أعوام. وكانت الأرقام القياسية التي بلغها إقراض البنوك التجارية قد أدت إلى زيادة الواردات وبالتالي أدت إلى فجوة تجارية أوسع، ووضعت المزيد من القيود أمام الليرة. حيث فقدت العملة نحو 30% من قيمتها منذ بداية هذا العام.
أما في مجال السياسة الخارجية فقد تراجع الرئيس التركي أيضا عن حالة العناد والسجال اللفظي مع زعماء غربيين ولاسيما الرئيس الفرنسي إلى اعتماد لغة لينة في توجيه خطابات إلى أوروبا والولايات المتحدة. ويأتي استخدام هذه اللغة استباقا لعقوبات قد يوقعها الاتحاد الأوروبي على تركيا بسبب سياستها المتعلقة بالبحث عن الغاز في شرق البحر المتوسط.
وكان مسؤول السياسة الخارجية الأوروبية جوزيف بوريل قد قال قبل تصريحات أردوغان بأيام قليلة أن “تركيا لا ترسل إشارات إيجابية وهي بحاجة لتغيير توجهها بشكل جوهري تجاه النزاع حول الموارد الهيدروكربونية في البحر المتوسط مع اليونان وقبرص أعضاء الاتحاد الأوروبي”.
ومن المنتظر أن يناقش القادة الأوروبيون مستقبل العلاقات التركية مع الاتحاد الأوروبي خلال قمتهم التي ستعقد يومي 10 و11 ديسمبر كما ذكرت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، وفي إجابتها على سؤال حول التوترات الراهنة بين تركيا وأعضاء الاتحاد الأوروبي قالت “إنهم سوف يراقبون التطورات خلال الأسبوعين المقبلين قبل مناقشة أي عقوبات محتملة على تركيا”. وفي نفس السياق حذر الاتحاد الأوروبي يوم الاثنين الماضي تركيا من استمرار سياساتها في الشرق الأوسط، وأعلن أن الأيام المقبلة ستكون حاسمة في العلاقة بين بروكسل وأنقرة. فقد صرح المتحدث باسم الممثل الأعلى للأمن والسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي بأن “بروكسل لا تزال تنتظر توجهات تركية فعلية نحو وقف التصعيد في شرق المتوسط” وأضاف “على هذا الأساس سنرى ما إذا كنا سنتجه إلى حوار إيجابي أو إلى خيارات أخرى”.
ختاما يبدو أن هناك تساؤلا مشروعا عما إذا كانت التوجهات الجديدة لأردوغان اقتصاديا وسياسيا ستمثل بالفعل تحولا في السياسة التركية أم هي مجرد استجابة مرحلية للتخلص من ضغط الأزمات التي سببتها السياسات السابقة؟