أحدَ عشرَ عاماً؛ زمنٌ ليسَ بقصيرٍ إن حُسبَ، ساعةً تلو ساعة، داخلَ جنةٍ من الراحةِ والطمأنينةِ والرفاهِ والسلام، فكم سيكونُ طولهُ إذاً إن أُحصيَ، دقيقةً تلو دقيقة، داخلَ جحيمٍ من الخوفِ والتدميرِ والتعذيبِ والقتل؟.. في الجحيم، قد تغدو الدقيقةُ ساعةً أو يوماً أو شهراً أو سنةً كاملةً. وحدها الآلامُ والتأوهاتُ والدموعُ والنبضاتُ الناطقةُ باسمِ الخوفِ والقلق، تدركُ معنى الزمن ومقداره، وحدهُ السوريُّ في الداخلِ يعرفُ معنى «أحدَ عشرَ عاماً» في الجحيمِ الذي لم تهدأ نيرانهُ لحظةً، ولم تخبو حِممهُ هنيهةً.
وطنٌ بُعثَ ساكنوهُ من قبورِ التكميمِ والقمعِ والخوفِ، قبلَ أحدَ عشرَ عاماً، ليصدحوا بصوتٍ مرتجفٍ: «نريدُ أن نحيا. نريدُ أن نستنشقَ أوكسجينَ الحرية»، لكنَّ الرصاصَ المخزّنَ في صناديق «المقاومة والممانعة» من قبلِ ممن امتهنوا صناعةَ الموتِ وحفرَ القبورِ، طفا على السطحِ، ليفتكَ بكلِّ شيءٍ؛ بشراً وشجراً وحجراً، متفنّناً في القتلِ والتدميرِ، متلذذاً بهما، مثلما تتلذّذُ الضباعُ الجائعةُ بنهشِ لحم فريستها التي لا حولَ لها ولا قوة.
لم تُخلق الضباعُ لتحكم، إنما لتنهشَ لحومَ فرائسها، ولأنَ الأمرَ كذلك، فلم تترك هذه الضباعُ من أداةٍ بشعةٍ إلا واستخدمتها ضدَّ فرائسها: قتلٌ، تعذيبٌ، اعتقالٌ، تجويعٌ، تهجيرٌ، حصارٌ، تدميرٌ، نهبٌ، أسلحةٌ محرّمةٌ، وقائمةُ الجرائمِ تطولُ وتطول.. كلُّ ذلك، أمامَ أعينِ عالمٍ يزعمُ أنه بلغَ درجةً عاليةً من التحضّرِ والتمدّنِ والإنسانيةِ والديمقراطيّة، أمامَ أعينِ عالمٍ يتشدّقُ يومياً بشعاراتٍ برّاقةٍ عن حقوقِ الإنسانِ وحقوقِ الحيوانِ أيضاً!.
البعضُ من العالمِ يتفرّجُ بصمتٍ على الجحيمِ السوريِّ، كما لو أنه أمامَ شاشةٍ تعرضُ فيلماً سينمائياً خيالياً، وهو يحتسي قهوتهُ بهدوءٍ دون أيِّ تأثرٍ واضح، والبعضُ حاولَ ولا يزالُ يحاولُ أن يظهرَ بمظهرِ «رجل الإطفاء» الذي يسعى إلى إخمادِ هذا الجحيم، فيما هو يمدُّ نيرانه بمزيدٍ من الوقودِ والحطب، والبعضُ يستنكرُ المأساةَ في النهارِ، وفي الليلِ يتّخذُ من الدمِ السوريِّ جسراً لعبورِ مشاريعهِ ومنافعهِ ومصالحه.. يا له من عالمٍ إنسانيٍّ!.
أمامَ هذا العالم المتفرّج على المأساة، وأمامَ أحدَ عشرَ عاماً من المقتلةِ والمذبحة، أما آن للسوريِّ أن يدركَ أن ليسَ للسوريِّ إلا السوري؟.. أما آن له أن يمدَّ يده إلى يدِ أخيه في الطرف الآخر المختلف سياسياً أو قومياً أو حزبياً؟.. أما آن له أن يعلمَ أن المركزيةَ والتعصّبَ والتفرّدَ والطائفيةَ والاستبدادَ والقمعَ ومحاولةَ إلغاء الآخر وطمسَ هويته، طرقٌ لا تفضي إلا إلى مزيدٍ من الجحيم؟.. أما آن له أن يتيقّنَ من أن الحلَّ يكمنُ في حوارٍ داخليٍّ بين الأطرافِ الداخليّةِ وليسَ في حوارٍ خارجيٍّ بين الأطرافِ الخارجيّة؟.. أما آن له أن يقدّرَ قيمةَ دمهِ الذي أضحى حطباً لنيرانٍ لم تعد تخصُّ وطنه؟.
لا مفرَّ من هذا الجحيم، ولا سبيلَ إلى إخمادِ حرائقه، إلا عبرَ طاولةٍ تجمعُ كلَّ الأطراف السورية، في حوارٍ جديٍّ تسودهُ الرغبةُ الحقيقيةُ في الوصولِ إلى حلٍّ ديمقراطيٍّ لامركزيٍّ يقودُ البلدَ إلى برِّ الأمانِ والسلام، فالخارجُ لا يأتي بحلولٍ، إنما يأتي بمزيدٍ من الدمِ والشقاقِ والتشظّي، وبالمثل، لا تأتي المركزيّةُ والطائفيةُ والكراهيةُ والاستبدادُ والتفرّدُ والعنادُ إلا بمزيدٍ من القتلِ والتدمير، فعلى السوريِّ أن يدركَ أن ليسَ للسوريِّ إلا السوري.