24 تموز عام 1923؛ تاريخٌ مشؤومٌ بالنسبةِ إلى الشعبِ الكُردي؛ ففيه تم التوقيعُ على معاهدةِ “لوزان” التي بموجبها قُسّمَ الكردُ واُلحقوا بأربع دولٍ هي تركيا والعراق وسوريا وإيران، لتكونَ هذه المعاهدةُ واحدةً من أقوى الطعناتِ التي استهدفت الجسدَ الكُردستانيّ خلالَ القرن الماضي، وذلك بمشاركةِ دولٍ كانت تتقاسمُ النفوذَ وقتذاك، رغمَ أن بعضاً منها كانت قد وعدت الشعبَ الكُردي، خداعاً ونفاقاً، بالدعمِ والمؤازرةِ لنيلِ الحريّةِ والانتشالِ من مستنقعِ الاستبدادِ والاضطهاد، بيدَ أنه في السياسةِ لا مكانَ للعواطف، ولا مكانَ للوعودِ الحقيقية، ولا مكانَ لانتظار الحقوقِ من أحدٍ دونِ عمل.. وحدها المنافعُ التي قد تتغيّر أساليب تحقيقها، هي البوصلةُ في هذا الشأن.
نعم، يجوزُ لنا أن نطلقَ عليها اسم “المؤامرة” وهي كذلك حقاً، طالما بِفعِلها تبعثرت أحلامُ وأجسادُ شعبٍ كاملٍ هنا وهناك؛ بين أربعِ ديكتاتورياتٍ تنافست في ابتكارِ طرقِ القمعِ والاستبداد؛ بين ديكتاتورياتٍ لم تنجز شيئاً ذا صيتٍ مثلما أنجزت في إطارِ صناعةِ الكبتِ والخوفِ والقتلِ والاعتقال.. إنها “مؤامرةٌ” لأنَ الدولَ التي نسجت خيوطها ووقّعت عليها، ظلّت صامتةً حيال ما اقترفتهُ هذه الديكتاتورياتُ من ويلاتٍ ومآسٍ، ضدَّ الشعب الكردي، طيلةَ قرنٍ كاملٍ، دون أن تنطقَ بكلمةٍ من قواميسها التي تحمل أسماءً برّاقةً مثل “الديمقراطية والحريات وحقوق الانسان”.
لكن، هل هذه هي المؤامرةُ الوحيدةُ التي تعرّضَ لها الكردُ قديماً وحديثاً؟ بالطبع، لا. بل عشرات المؤامراتِ إن أردنا إحصاءها؛ فما سببُ تكرارِ هذه المؤامرات؟ بالتأكيد، سيكون ضرباً في الدجلِ إن أعدنا السببَ إلى “لعنةٍ سماوية”!، أو إن قلنا إن العالمَ ناقمٌ على هذا الشعب لسببٍ أو لآخر! ثمةَ سببٌ رئيسيٌ متكرّرٌ معروف؛ وهو الانقسامُ الداخلي؛ إذ كان هذا الانقسامُ على الدوامِ سبباً أساسياً من أسبابِ نجاحِ هذه المؤامرات، ولولا توفّر هذا السبب، لربما فشلت معظم هذه المؤامرات أو لعلها لم تكن لتُنسجَ أصلاً.. فلماذا لا نستفيدُ من التجاربِ والتاريخ؟ وإلى متى سنبقى على هذه الحال؟ ألم يئن الأوانُ كي نعرفَ أن “انقسامنا” هو أحدُ أسبابِ مظلوميتنا ومآسينا ومعاناتنا؟
في الحقيقة، لا شيءَ يخدمُ العدوّ مثلما يخدمهُ الانقسامُ الداخليُّ الذي يجعلُ الجسدَ أشلاءً، فيظنُّ كلُّ شلوٍ أنه على حقٍّ وأن الآخرَ على باطل، ولأنَ قوّةَ الجسدِ ككلٍّ مرهونةٌ بقوةِ الترابطِ بين أعضاءه وأشلاءه، فإن الأعداء دائماً ما يسعونَ إلى استغلالِ أيّ ثغرةٍ من شأنها فكَّ هذا الترابط أو إضعافهِ، بما يتيحُ لهم فرصةَ الانقضاضِ على أعضاءِ هذا الجسد، عضواً تلو عضو، إلى حين التهام الجسدِ ككل.. من دونِ شك، هذا الطرحُ بديهيٌّ وواضحٌ جداً، لكن رغمَ بداهتهِ ووضوحهِ، ورغمَ تكراره المؤلم في التاريخِ الكُردي، إلا أنه لا يزالُ سائداً في الواقعِ الكردي حتى اللحظة.
التنديدُ وحدهُ غيرُ كافٍ؛ وإعلانُ المظلوميّةِ وحدهُ غيرُ كافٍ؛ وحدها اليقظةُ ومعرفةُ الأسبابِ ومعالجتها قد تجدي نفعاً؛ فمعاهدةُ (لوزان) أو شبيهاتها لا يمكن أن تتوقّف، مالم تكن هناك يقظةً كرديّةً موحّدةً قادرةً على سدِّ الطريقَ أمام أيِّ مؤامرةٍ أو اتفاقيّةٍ في هذا الشأن، ولكي تتوّلدَ مثل هذه اليقظة، لابدَّ من مفارقةِ الخلافاتِ البينيّة، والوقوفِ بخضوعٍ أمام رايةِ المصلحة العليا التي هي القضية الكردية، فهذه القضيةُ ليست قضيةَ كرديٍّ دون آخر، أو قضيةَ طرفٍ كرديٍّ دون آخر، إنما هي قضيةُ الجسدِ الكُردي بجميعِ أعضاءه وأشلاءه، هذا الجسدُ الذي التهمتهُ (لوزان) طيلةَ قرنٍ كامل؛ هذا الجسدُ الذي ينتظرُ من أعضاءهِ الوحدةَ والتكاتف، كي يتحرّرَ ويرى النورَ من جديد.