عبد الوهاب خليل: لماذا نعزف عن ممارسة السياسة؟

هل فعلاً ممارسة السياسة تكلفنا كثيراً؟ هل هي خطيرة ومدمرة لحياة الفرد؟ لماذا نخاف منها ونتوجس من كل فرد يمارسها؟.. هناك من سيقول إن المناخ السياسي فاسد وملوث، ولهذا يستحسن الابتعاد عنه وتجنبه، ولكن هل السياسة وحدها فاسدة وملوثة؟ أليست ظاهرة الارتشاء والفساد متفشية في الإدارات العمومية، ومع ذلك الأطر والدكاترة يتحملون الويلات ليحظوا بمنصب فيها؟ أليس صحيحاً أن معظم القطاعات من تعليم وصحة وتعمير وفن.. الخ بها الصالح والطالح، ولكن هذا لا يشكل عائقاً أمام الانخراط في هذه القطاعات والبحث عن موقع فيها. أليس صحيحاً أن الفساد نفسه كلمة مبهمة تتحمل تأويلات عدة؟
هناك من سيقول إن السياسة بلا أخلاق، ولكن هل فعلاً السياسة بلا أخلاق؟.. إن من يتأمل لعبة الملاكمة وهو غير عارف بقواعدها قد تبدو له لعبة بلا أخلاق، فما معنى أن يلكم شخصين بعضهما إلى أن تنتفخ وجنتيهما ويسقط أحدهما أرضاً؟
هناك من سيقول إن التاريخ يظهر دائماً أن المناضلين الذين تشبثوا بمبادئهم كانوا دائماً ضحايا في نهاية المطاف وانتهى أمرهم إما بالسجن أو الموت أو الإهمال والنسيان والفقر، وربما هو ما عبر عنه تشي غيفارا بقوله: الثورة يصنعها الحالمون ويقوم بها المجانين ويقطف ثمارها الانتهازيون. وكثير من المناضلين في أحزاب عدة ستجدهم يشتكون لأنهم ضحوا بوقتهم وحياتهم من أجل الحزب، ولكن لم يحصدوا إلا الأشواك، فلا أحلامهم بمجتمع عادل تحققت ولا أوضاعهم كأفراد تحسنت، وهذا الواقع الذي يشهد عليه التاريخ يجعل الناس يهربون من السياسة ويبتعدون عنها، لأنها ترمز للألم والخيانة وسلسلة من الإحباطات المتكررة.
لكن ربما لو حاولنا أن نفهم عمق الأشياء، فسنغير بعضاً من مفاهيمنا حول النضال والسياسة. من هنا لا بد أن نطرح سؤالاً جوهرياً: هل كل مناضل هو سياسي؟ وهل كل سياسي هو مناضل؟ وهل المجتمع يحتاج أكثر إلى السياسيين أم إلى المناضلين؟.. أعتقد أن المناضل يضحي دائماً، فلا يهمه أن يخسر هو في سبيل أن يربح الآخرون، أما السياسي ففي الغالب علاقاته تكون مبنية على الربح المتبادل، ولهذا ففي الغالب يكون مفاوضاً بارعاً.. المناضل عادة ما ينطلق من ذاته، ولهذا تجده انفعالياً وثورياً ويؤمن بالحقيقة الواحدة، فيظل متشبثاً بها ولو كلفته حياته، أما السياسي فيتمرن باستمرار ليبتعد عن الذاتية والأنا في حكمه على الأحداث والوقائع، فتجده يتدرب باستمرار على ضبط الذات والتحكم فيها والسيطرة على كل المشاعر السلبية التي يمكن أن تجتاحه وتضعفه كالخوف والرغبة، فشخصيته لينة كعظام لاعب الجمباز وثاقبة كعيون ملاكم يحسن توقيت ومكان تسديد اللكمات، كما أنه يجيد فن الانحناء تحت الأمواج متى كانت عاتية بدلاً من تحديها ومحاولة الركوب فوقها، ولهذا فإن السياسي يسيطر على المناضل ويجيد ترويضه واستخدام انفعالاته وثوريته لما يخدم توجهاته ومصالحه. بيد أن السياسي متى اجتمعت فيه صفات المناضل فإنه يكون قادراً على التغيير الإيجابي والصمود في وجه القوى المحافظة في المجتمع.
لهذا يبدو لي أن المجال السياسي في حياتنا يشبه المجال الفني والرياضي، فلا أحد يمكنه أن ينكر أهمية الفن والرياضة في حياتنا وكيف أن اهتمامنا بالفنون السبعة سيصقل روحنا وينمي إحساسنا وكيف أن ممارستنا للرياضة ستقوي بنيتنا وتمنح المناعة لجسمنا، ولكن من الغباء أيضاً أن نعتقد أن اهتمامنا بالفن كفيل بأن يجعلنا فنانين مقتدرين وأن اهتمامنا بالرياضة كفيل أن يجعلنا أبطالاً محترفين. فمشاركتنا في الحياة السياسية وانخراطنا في الأحزاب لا يمكن أن يصنع منا صقوراً في السياسة، فشخصياً أؤمن أن السياسيين المحنكين تكون لهم مواهب خاصة وفطرية.
من هذا المنطلق، أعتقد أن السياسي إنسان مظلوم عبر التاريخ. إذ لا نجد حرجاً مثلاً في أن نتقبل أخلاقياً أن يباع لاعب كرة قدم يدحرج كرة في ملعب صوري بمئات الملايين من الدولارات، وفي نفس الوقت نقذف السياسي بتهم الارتزاق والكسب غير المشروع وإن لم يصل إلى ثراء لاعب كرة القدم وهو القادر على خلق التوازنات وعلى كتابة التاريخ وهو الذي يتعرض لضغوطات رهيبة ويخاطر بحياته ويقبل أن يلعب في ملعب حقيقي يشبه حقل ألغام.
لكن لا أحد يمكنه أن ينكر أن السياسيين اليوم لم تعد لهم القدرة على التأثير في المجتمع، الفنان نفسه فقد هذا السحر وفقد أدواره الطلائعية التي لعبها في عصر الأنوار وفي بداية عشرينات القرن الماضي. وقد يكون السبب أن الفن والسياسة في عصرنا الحالي غلب عليهما الطابع التجاري، وهكذا تحول الفنان والسياسي إلى دمى تحركها شركات الإنتاج أصحاب النفوذ من رجالات الاقتصاد.