مقالات

جوان ديبو: لعبة ولعنة الأمم في سوريا

(السلام- العرب) .. يسرد التاريخ بأن لعبة الأمم في سوريا، والهادفة منذ الانطلاقة الأولى إلى الظفر بهذا البلد الناشئ وفق إرادات الآخرين، قد بدأت منذ الاستقلال وجلاء الفرنسيين عنه في العام 1946. وما زالت هذه اللعبة جارية إلى الآن، وتتجدد فصول مع اختلاف التفاصيل وهويات اللاعبين.

ومن الصعوبة بمكان فهم وتناول محركات ومآلات الزلزال السياسي الأخير في الثامن من ديسمبر 2024 الذي أفضى إلى الإطاحة بحكم نظام حزب البعث الذي دام 61 عاما، وبحكم بيت الأسد الذي استغرق 54 سنة، وفرار طاغية دمشق، بمعزل عن قاعدة لعبة الأمم هذه، والتي تحولت في الكثير من المراحل إلى لعنة اكتوى بجحيمها السوريون.

يقول الكاتب البريطاني باتريك سيل في كتابه “الصراع على سوريا: دراسة للسياسة العربية بعد الحرب 1945 – 1958″، “الحقيقة إن شؤون سوريا الداخلية تبدو وكأنها فاقدة المعنى تقريبا ما لم تعز إلى القرينة الأوسع، وهي جاراتها العربيات أولا، والقوى الأخرى ذات المصالح ثانيا. وليس من قبيل الصدفة أن تعكس سوريا في تركيبها السياسي الداخلي منافسات جيرانها وخصوماتهم.” لكن بعد أفول الدور العربي الاستقطابي الحاد تدريجيا، حلّ محله، وفي مرحلتين مختلفتين الدور الإيراني في العام 1979 والدور التركي في سنة 2011، بطبيعة الحال وفق ضوابط مرسومة من قبل القوى العالمية المؤثرة على الشأن الداخلي السوري منذ ذلك الوقت وإلى الآن، وهي الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي السابق (روسيا الاتحادية) حاليا.

تجسدت لعبة الأمم في سوريا من خلال البصمات الواضحة للقوى العالمية والإقليمية المؤثرة في معظم الانقلابات العسكرية العشرة التي شهدتها سوريا ابتداء من انقلاب حسني الزعيم في الثلاثين من مارس من العام 1949 الذي أطاح بالرئيس شكري القوتلي وحكومة خالد العظم وانتهاء بانقلاب حافظ الأسد في السادس عشر من نوفمبر 1970 والذي أطاح بحكم نورالدين الأتاسي وصلاح جديد. هذا ما عدا حوالي عشرة محاولات انقلابية أخرى باءت بالفشل.

واستيلاء الفصائل الإسلامية على الحكم في دمشق في الثامن من ديسمبر 2024 بعد انهيار نظام البعث وهروب الطاغية بشار الأسد لم يكن سيتم لو لا الدعم والمباركة الأميركية – التركية – الإسرائيلية – الروسية. وبما أنه لا يوجد شيء مقابل لا شيء وفق منطق العلاقات الدولية حيث إن لكل شيء مقابلا، لذلك وجب على السوريين معرفة الثمن المنتظر من الفاتحين الجدد وبطبيعة الحال على حساب سوريا والشعب السوري بغض النظر عن ماهية وطبيعة الثمن. وبالمناسبة نفس هذه الدول حوّلت سوريا مدة 13 سنة إلى حقل تجارب لسياساتها القذرة وأسلحتها الأكثر قذارة ووقفت حجر عثرة أمام أي تسوية بين النظام البائد والمعارضات السورية المتعارضة ولاسيما الفصائل الإسلامية المسلحة، غير آبهة البتة بالعذابات التي كابدها السوريون طوال تلك السنوات العجاف.

الهدف من هذا الكلام ليس إنساب كل ما جرى في داخل سوريا منذ 1946 بشكل عام ومنذ 2011 وإلى اليوم بشكل خاص إلى العوامل الدولية والإقليمية فقط وإهمال الأسباب المحلية، وإنما تبيان العلاقة العضوية الترابطية بين القوى المؤثرة خارجيا على مجريات الأحداث في سوريا وبين القوى السورية المكملة للدورين الدولي والإقليمي.

ومن ثم التركيز على كيفية التخلص من عقدة الاتباعية للخارج عن طريق تأسيس حالة سياسية سيادية وطنية جامعة لكل السوريين بعد تبني دستور عصري وحضاري يشمل ويمثل كافة السوريين بغض النظر عن انتماءاتهم الطائفية والعرقية والمناطقية وبصرف النظر عن مشاربهم السياسية والفكرية وعلى أساس نظام حكم لامركزي قد يتجلى في الحكم الذاتي أو في الفيدرالية للأقاليم أو حتى في الكونفدرالية. وبالتالي، عندها فقط يمكن الحديث عن بداية الانعتاق من آثار وعواقب لعبة ولعنة الأمم التي طالت كثيرا في سوريا. وبدون التأسيس والمأسسة سيبقى هذا البلد رهينة للإرادات الدولية والإقليمية التي لا تريد الاستقرار والرفاه لسوريا بقدر ما تسعى إلى الحفاظ على مصالحها القديمة وخلق مصالح جديدة كتجسيد للحالة الواقعية التي تعيشها العلاقات والسياسات الدولية غير آبهة بما يلحق بالسوريين من مظالم وويلات.

ويبقى السؤال المطروح هل باستطاعة الفاتحين الجدد تحقيق المطالب أعلاه أو الجزء اليسير منها؟ أو بالأحرى هل هذه المطالب هي ضمن أجندات وبرامج المنتصرين الجدد بمعية العديد من الدول العالمية والإقليمية أم أنها ليست بوارد التفكير مطلقا بهكذا مقترحات وأفكار وأنها في النهاية ستقدم نموذجا مشابها لنظام الأسد البائد في الجوهر؟

نعم أخيرا سقط الطاغية، لكن هل سقط النظام أو هل سيسقط النظام بكافة مرتكزاته الفكرية والمادية كما يحلم بذلك الملايين من السوريين؟ سقط رأس النظام وهذا أمر مهم ومفرح ومبشر، ولكن الأهم إسقاط الركائز المادية والذهنية لنظام الأسد الذي كان يجسد نظام الحزب الواحد والطائفة الواحدة والعائلة الواحدة والقمع والتنكيل والفساد والإقصاء بحيث يمكن تجنب تكرار نفس التجربة المريرة في وجوه ونسخ جديدة في المستقبل. هل الإطاحة بالطاغية ستستتبع ولادة وتبني دستور جديد روحا وشكلا يقر بمدنية سوريا اللا مركزية ويعترف بجميع مكونات سوريا ويمنحها الحقوق؟ هل سيكون البديل مغايرا بحيث يتم الاعتراف بوجود وحقوق وخصوصيات جميع المكونات أم أننا سنشهد مرحلة مماثلة أو قريبة لمرحلة الأسد من حيث المضمون؟ عمليا تجاوز السوريون السؤال الأول وهو كيف حدث هذا الزلزال الذي أدى إلى الإطاحة بنظام الإجرام في غضون عدة أيام فقط إلى السؤال الأهم وهو ماذا سيحدث لاحقا وكيف سيكون وجه سوريا المستقبل؟ ليست هناك أجوبة إلى الآن للأسئلة أعلاه نظرا لأن الحدث ما زال جديدا وساخنا، لكن مبدئيا وبالنظر إلى أدوات ومحركات التغيير فإن القادم لا يبشر بالخير كثيرا نظرا للدور التركي البارز في هذا التغيير، وكل الخشية أن تنتقل سوريا من الدكتاتورية العلمانية إلى الدكتاتورية الإسلامية السنية وإلى العباءة التركية بعد التخلص من العباءة الإيرانية.

من أجل وضع حلول جذرية للمعضلة السورية التي تمتد بجذورها إلى مخرجات الحرب العالمية الأولى والتي تكمن في شكل وطبيعة وتفعيل الدولة مؤسساتيا والنظام السياسي، وبالتالي الانتقال من الدولة الفاشلة إلى تخوم ومصاف الدولة الناجحة، لا مناص من التخلص من انعكاسات لعبة الأمم ولعنتها على الجغرافيا السورية، وذلك برفض اللاعبين السوريين المحليين القيام بتنفيذ الأجندات الخارجية والاستقواء بالأطراف الخارجية ضد بعضهم البعض، وذلك بإعطاء الفرصة لجميع المكونات واللاعبين بالمشاركة في رسم صورة وملامح سوريا المستقبل دون إقصاء أو تهميش، وإلا ستبقى سوريا منهكة متخمة بالجراح ولن تقوم لها قائمة ما دامت هي أرض خصبة لإنبات مؤامرات وأجندات الدول الإقليمية والعالمية وحلبة لأحابيلها وألاعيبها ولعناتها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى