ذكر الرئيس الأمريكي جو بايدن أن روسيا كانت تفكر في شن هجوم ضد بنى تحتية دولية حساسة للغاية. فمن بين السيناريوهات المطروحة منذ بدء الحرب في أوكرانيا سيناريو استهداف روسيا للكوابل الموجودة في عمق البحر بهدف قطع الإنترنت عن العالم بأسره. لكن تطبيق هذا السيناريو الكارثي على أرض الواقع يبقى أصعب مما يبدو عليه نظريًا.
بث الرئيس الأمريكي في 21 آذار/ مارس موجة مخاوف بشأن إمكانية حدوث هجوم على شبكة الإنترنت العالمية. حيث صرح جو بايدن بأن “الدولة الروسية تدرس مختلف الفرضيات المحتملة لشن هجوم سيبراني” مؤكدا أن كلامه ارتكز على “معلومات استخباراتية”.
وليست هذه المرة الأولى منذ بداية الهجوم الروسي على أوكرانيا التي تنبه فيها الإدارة الأمريكية إلى خطر هجوم قراصنة إلكترونيين على شبكة الإنترنت بأمر من موسكو. ولم تنفك واشنطن تؤكد استعدادها لصد أي هجوم سيبراني روسي.
أكثر من 430 كابلا بحريا تحت التهديد
لكن هذه المرة، حض جو بايدن المؤسسات الأمريكية على “إغلاق الأبواب الرقمية” في أسرع وقت لحماية نفسها مؤكدا أن “الضربة غير المسبوقة التي وُجهت إلى روسيا” عبر العقوبات التي قررها المجتمع الدولي يمكن أن تدفع موسكو إلى الانتقام من الغرب في الفضاء السيبراني.
بعبارة أخرى، فإن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين – وأمام سيل العقوبات – سيكون مستعدا مستقبلا لتصعيد الحرب عبر مهاجمة الدول المنضوية في الحلف الأطلسي من خلال السلاح الإلكتروني. وهي اتهامات سارعت موسكو بنفيها من أساسها. حيث صرح المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف ”الاتحاد الروسي، وعلى عكس كثير من الدول والغربية ومنها الولايات المتحدة، لا يسمح لنفسه باللجوء إلى أسلوب العصابة الرقمية”.
لكن تحذيرات جو بايدن دفعت وسائل الإعلام إلى البحث في فرضية حصول كارثة رقمية تتمثل في حرمان روسيا العالم بأسره من الإنترنت عبر الهجوم على الكوابل البحرية الدولية.
ومنذ بدء الأزمة الأوكرانية، تم تداول هذا السيناريو في العديد من المرات وحتى وسط أعلى الدوائر العسكرية. ففي كانون الثاني/ يناير 2022، قال الأميرال طوني راداكين قائد القوات المسلحة البريطانية في تصريح نقلته صحيفة الغارديان أن موسكو يمكن “أن تضع في خطر نظام تداول المعلومات المرتبط بالكوابل الموجودة في عمق البحر”. وهي فرضية يؤكدها مركز الدراسات الأمريكي، “المجلس الأطلسي”، الذي نشر ملخصا لبحث مخصص لهذا الخطر في بداية العام الجاري.
ويجب التذكير هنا بأن أكثر من 430 كابل إنترنت تحت البحر تمثل هدفا مغريا لمن يريد إحداث اضطراب في شبكة الاتصالات العالمية. وتشبه هذا الكوابل التي كثيرا ما اُعتُبرت نقطة ضعف الشبكة العالمية “بخراطيم ضخمة لري الحدائق ترقد في عمق البحر” حسب وصف توبياس ليبتراو المختص في العلاقات الدولية ومسائل الأمن الرقمي في المعهد الدانماركي للدراسات الدولية.
وما يجعل من هذه الكوابل نقطة ضعف هو بالأساس عدم تمتعها بأية حماية خاصة باستثناء “برامج مدمجة للمراقبة تسمح بالإنذار بوجود خطر ما على مقربة منها” حسب نفس الباحث الذي ساهم في إعداد دراسة حول أمن شبكة الكوابل البحرية التي نشرت في مجلة “كونتمبريري سيكوريتي بوليسي” في سنة 2021.
هجمات من السهل إخفاؤها
تعد الكوابل البحرية بمثابة “فريسة” لا تملك أي وسيلة للدفاع عن نفسها ومن السهل مهاجمتها. “نظريا، يبقى من اليسير إخفاء عملية تخريب لكابل تحت البحر” حسب وجهة نظر كريستيان بوغر في اتصال مع فرانس24، وهو الذي ساهم في إعداد نفس الدراسة التي نشرتها مجلة “كونتمبريري سيكوريتي بوليسي” والمختص في مسائل الأمن البحري بجامعة كوبنهاغن. يكفي أن تلقي سفينة تجارية أو مركب صيد مرساتها فوق كابل في عمق البحر غير بعيد عن السواحل (حيث لا توجد هذه الكوابل في عمق كبير) لإحداث ضرر بها. كما يمكن لغطاسين أو غواصات وضع متفجرات على الكوابل أو ألغام على مقربة منها يمكن تفجيرها عن بعد في وقت لاحق.
وتبدو هذه العمليات في نفس الوقت سهلة التنفيذ وذات تداعيات غاية في الخطورة ومكلفة جدا لاقتصاد الدول الغربية. فمجرد دخول مستخدم إنترنت أوروبي لبريده الإلكتروني أو كتابة تغريدة أو وضع علامة إعجاب لصديقه على فيس بوك، تتطلب عبور المحيط الأطلسي عبر كوابل في عمق البحر. “إنها حيوية إذا ما تعلق الأمر بنقل بيانات باتجاه دول لا تملك ربطا أرضيا مع مكان إصدار الرسالة” حسب توضيح إيميل أبين لفرانس24، وهو مختص في السلامة المعلوماتية في شبكة “رايبه كورديناشن سنتر”، وهي منظمة غير حكومية تعنى بالسجل الإقليمي لعنوان الإنترنت أي بي “IP ” في أوروبا والشرق الأوسط بالخصوص.
وإذا كانت فرضية حدوث هجوم روسي ضد هذه البنى التحتية الرقمية يثير كل هذا القلق، فإن جزءا منه يعود إلى “وجود أنشطة روسية مشبوهة في البحر بالقرب من مواقع وجود هذه الكوابل” حسبما أكد كريستيان بوغر. فلقد قامت بواخر روسية بتدريبات غير بعيدة من إيرلندا أو النرويج في المكان الذي تمر منه عدة كوابل بحرية تربط أوروبا بالولايات المتحدة.
كما تم رصد بواخر أبحاث روسية سنة 2014 في عرض سواحل البرتغال وهي منطقة أخرى يمر منها نحو عشرة كوابل بحرية. ومنذ سنوات، تسود شكوك بأن “روسيا تعد لشيء ما”، حسب كريستيان بوغر.
“العملية الأكثر جدوى ستكون ميدانيا عملية ضد قناة السويس”
بالنسبة إلى هذا الخبير، يوجد انطباع أنه – في كل نزاع – تتحول وسائل الاتصال إلى هدف ذي أولوية قصوى. ففي الحرب العالمية الثانية كان الهدف أجهزة التليغراف وتحول اليوم إلى كوابل الإنترنت في أعماق البحار”. لكن حرمان العالم من شبكة الإنترنت ليس بالسهولة التي كانت عليها عندما تم إخراج وسائل الاتصال عن الخدمة عبر قطع الأسلاك الكهربائية سنة 1939.
حيث يخلص أبين إلى أن “الهجوم على كابل هو بمثابة تدمير ممر واحد على طريق به عشرة ممرات”. إذا أن دولا مرتبطة على نطاق واسع بالشبكة، على غرار معظم الدول الأوروبية والولايات المتحدة والدول الآسيوية تملك أكثر من كابل واحد تحت البحار لربطها بالعالم وذلك يعود بالأساس لمعرفتها بأن هذه البنى التحتية الرقمية هشة جدا.
ويقر توبياس ليبتراو أنه “باستثناء بعض الجزر النائية، فإن الدول التي ستحرم من الإنترنت في حال تضرر اثنين أو ثلاثة كابلات بحرية يبقى نادرا”. ويتعلق الأمر بجزر أسوريش وماديرا وولاية تاسماني الأسترالية.
ويضيف توبياس ليبتراو “يجب على روسيا إطلاق علمية عسكرية واسعة النطاق لكي تكون قادرة بالفعل على جعل النفاذ إلى الإنترنت بأوروبا والولايات المتحدة موضع خطر”. إذ يجب عليها حسب الخبير إجراء عملية بحث لمعرفة مكان تواجد كل كابل ويؤكد أنه “حتى في حال وجود خرائط فإنها بقيت غير دقيقة بشكل متعمد”.
كما أن على روسيا فيما بعد تحريك عدد ضخم من البواخر والغواصات لضرب الكابلات المستهدفة في وقت واحد. فيقول كريستيان بوغر”العملية الأكثر جدوى ستكون ميدانيا عملية ضد قناة السويس التي يمر عبرها جزء كبير من البيانات بين أوروبا وآسيا”.
زد على ذلك أن هذا النوع من الخطوات سيسبب ضررا بالمدنيين بالخصوص. “في حال عدم جود بديل للكابلات البحرية لكل ما يتعلق بالاستخدام اليومي للشبكة العنكبوتية (التصرف في الحسابات البنكية، مشاهدة الأفلام، ممارسة ألعاب الفيديو) فإن بعض الاتصالات المتعلقة ببيانات حساسة مثل الاتصالات العسكرية أو بين الحكومات، فيمكن أن تتم عبر شبكة الأقمار الاصطناعية” حسب تقدير كريستيان بوغر.
ولهذا السبب -ورغم أن الكوابل البحرية تبدو نظريا هدفا مغريا – فإن توبياس ليبرتراو يعتبر “أنه من المستبعد أن يكون خيارا تحتفظ به موسكو”. وذلك لأنه ما من شك بأن هذا النوع من الهجمات سينظر إليه من قبل الغرب على أنه إعلان حرب. وهو ما صرح به الأميرال البريطاني طوني راداكين. ومن المرجح أن موسكو ليست مستعدة لمثل هذا التصعيد في عملية تتطلب الكثير من الموارد دون أن يكون لها انعكاسات مهمة على القدرات العسكرية للحلف الأطلسي.
في المقابل، يمكن لروسيا أن تستهدف كابلا أو اثنين “بهدف إطلاق تحذير رمزي” حسب تقدير كريستيان بوغر، في محاولة لإظهار قدرتها على الإيذاء ووضع الأصبع على مجال موجع للغرب.
المصدر: فرانس 24.