ما من عدوٍّ في التاريخِ نجحَ في التوغّلِ إلى عمقِ بلدٍ ما أو مجتمعٍ ما دون أن تكونَ هناك مسالكَ أو ثغراتٍ تتيحُ أو تمهّدُ له هذا التوغّل، فالعدوُ دائماً ما يبحثُ عن نقاطِ ضعفٍ أو يعملُ على إحداثِ مثل هذه النقاط، كي يتمكّنَ من التسلّلِ وفرضِ هيمنتهِ وإرادتهِ على البلدِ المستهدَف، وبقدرِ ما يكونُ هذا البلد متماسكاً متشابكاً متعاضداً متوحّداً، حكومةً وشعباً، يصعبُ على العدوِ التدخّل وفرض سيّطرته، وبقدرِ ما تكونُ هناك تفرقةً وتمزّقاً وتشتّتاً أو أرضيةً ملائمةً لخلقِ مثل هذه الأمور، يسهلُ على العدوِّ التدخّل دونَ تكاليفَ باهظةٍ ودونَ حاجةٍ إلى زمنٍ طويلٍ من التخطيطِ والدهاءِ والثعلبة.إننا هنا نتحدّثُ عن “المناعةِ الداخليةِ” التي بقوّتها ومتانتها يضعفُ العدوّ، وبضعفها وهزالتها يقوى العدوّ، فالمناعةُ الداخليةُ مثلما هي مهمةٌ للجسدِ كي يكونَ قادراً على مواجهةِ الفيروساتِ والأمراضِ كأعداءٍ خارجيين لهذا الجسد، هي مهمةٌ أيضاً بالقدرِ ذاتهِ للمجتمعاتِ والبلدانِ كأجساد، فحينَ تكونُ مفردات أو أعضاء هذه المجتمعات أو البلدان متماسكةً بقوةٍ وقناعةٍ ويقين، فإن ذلك يعني أن مناعتها الداخلية على أفضلِ ما يكون، وأن اختراقها من قبل العدوِّ كمرض ليسَ بالأمرِ السهل، والتاريخُ حافلٌ بنماذج هذه المجتمعات والدول التي سقطَ على أبوابِ قلاعها أعتى الأعداء وأشرسهم.
من هذا المنطلق، تغدو مساّلة وحدة الصف الكرديِّ أو وحدة الموقفِ الكُردي أو تمتين المناعة الداخلية الكردية، على رأسِ الضرورةِ والأهميةِ، بل إنها تعدُّ غايةً في حدِّ ذاتها، كونها تمثّلُ المعبرَ الرئيس المفضي إلى تحقيقِ أقصى ما يمكنُ تحقيقهُ لأجلِ القضية الكُردية في سوريا؛ هذه القضية التي تُعتبر غاية الغاياتِ بالنسبةِ إلى الكُرد، والتي ظلّت طيَّ التهميشِ إقليمياً ودوليّاً أعواماً وأعوام، نتيجةَ شوفينيةِ الأنظمة الحاكمة كعاملٍ أساسيٍّ، وعدم اتّفاق قادة الحركة الكردية على خطٍ أو صيغةٍ أو لونٍ سياسيٍّ توافقيٍّ واحد، كعاملٍ مساعد، والتجاهل الدوليِّ الذي كانَ نابعاً من ضروراتِ المصلحةِ والمنفعةِ، كعاملٍ مساعدٍ آخر.
إن ترتيبَ البيتَ الكردي، أو بصيغةٍ أخرى: تقوية مناعة البيت الكردي، مطلبٌ شعبيٌّ تاريخي، ولا يزالُ هذا المطلبُ قائماً على قدمٍ وساقٍ كضرورةٍ ملّحةٍ تقتضي التنفيذََ الفوري، بل إنه باتَ أكثرَ إلحاحاً وضرورةً من أيّ وقتٍ مضى، كونَ الفرصة المتاحة الآن ربما لم تُتح في أي زمنٍ ماضٍ، واستغلالُ هذه الفرصة عبرَ صوتٍ واحدٍ ويدٍ واحدةٍ يعدُّ أمراً لا جدالَ في أهميتهِ، فالمصلحةُ الكرديةُ العليا فوقَ كلِّ اعتبار، ولا اكتمالَ لهذه المصلحة ولا نضجَ حقيقي، ما لم تكن هناك وحدة قادرة على مخاطبةِ العالم بلسانٍ واحد، والتفاعل مع مجرياتهِ وتطوّراته وتحوّلاتهِ السياسيةِ برؤيةٍ واحدةٍ واثقة.
بالتأكيد، لا يعني الترتيبُ الذي نتحدّثُ عنه اندماجاً كليّاً أو تخلياً عن الخصوصية، إنما يعني الوقوف موقفاً واحداً برؤيةٍ مشتركةٍ تكونُ مرجعيةً قادرةً على تمثيلِ الكردِ ككل في كلِّ اجتماعٍ أو مؤتمرٍ يخصُّ الكردَ وقضيتهم العادلة، فكثرةُ الأصوات تثيرُ الضجيجَ وتفقدُ التوازنَ والاتّزان ولا تساهم في حلِّ أي مشكلة، وتعدّدُ الخطوط في الزمنِ الذي يستدعي خطاً واحداً يؤدي إلى الضياع، والعنادُ غيرِ المدروس في الوقتِ الذي يقتضي اللينَ والمرونةَ يفضي إلى الانكسارِ أمامَ أولِّ مطبٍّ أو تحدٍّ سياسيٍّ.
لا شيءَ يوازي الوحدةَ قوةً في مثل هذه الظروف، ولعلَّ الوحدةَ التي تتسمُ بها قوات سوريا الديمقراطيّة كمثالٍ على التماسكِ والمناعةِ الداخليةِ خير دليلٍ على قوتها ونجاحها واستمراريتها بثقةٍ عالية. إن فرصةَ النجاح في الوحدةِ متاحةٌ دائماً إن أُتيحت النيّة والرغبة الحقيقية في إنجازها، والموقفُ السياسيُّ لن يتمتّعَ بالقوةِ المرجوةِ في أيِّ محفلٍ ذي شأن ما لم يكن صادراً عن جسدٍّ سياسيٍّ كرديٍّ ناطقٍّ بلسانٍ واحد لأجلِ هدفٍ واحدٍ أسمى وهو القضية الكُردية التي هي فوق كلِّ اعتبارٍ شخصيٍّ أو حزبي.