بإمكانِ أيّ شخصٍ أن يرفعَ يده قائلاً: «أنا معارض»، وبمقدورِ أيّ شخصٍ أن يتّخذَ لنفسهِ شعاراتٍ نظرية تدعمُ مقولته تلك، يردّدها كالببغاء أينما حل، لكن ليسَ باستطاعةِ أيٍّ كان أن يطبّقَ تلك المقولة تطبيقاً يمكنُ الوثوق به كفكرٍ ومنهجٍ وعمل.
المسألةُ إذاً ليست مسألةَ شعاراتٍ وطروحاتٍ نظريةٍ معسولة، إنما هي مسألة تطبيقٍ وممارسةٍ ورغبةٍ حقيقيةٍ في التغيير، ومن دونِ وجود هذه الرغبةِ بصورةٍ فعلية وهذه الممارسة بصورةٍ عقلانيةٍ مرنةٍ، تبقى مقولةُ «أنا معارض» حبيسةَ الشعار الذي لا أسهلَ من صياغتهِ ولا أسهلَ من إطلاقهِ في كل مناسبة.
ثمةَ أسئلةٌ هامة في هذا المضمار، تحدّدُ الإجابةُ عنها ماهيةَ معارضة الشخص لنظامِ حكمٍ ما: من تعارض؟ وماذا تعارض؟ ولماذا تعارض؟ وكيف تعارض؟.. تبدو هذه الأسئلة للوهلة الأولى أنها من المسلمات التي قد يعتقد البعض أنها لا تحتاج إلى نقاشٍ مطوّل، إلا أنها في الحقيقة في غاية الأهمية، كونها تشكّل الأساس الذي يُبنى عليه الفعل الثوري الرامي إلى التغيير والتحوّل من حالة القهر والقمع إلى حالة الانفراج والديمقراطية.
إن الإجابةَ الصحيحة عن سؤالٍ أو سؤالين فقط من الأسئلةِ الأربعة، لا تكفي مطلقاً لتكونَ صوتاً معبّراً عن مصداقيةِ الشخص المعارض ورغبته الحقيقية في التغيير، لذا، فإنه من المهم جداً، أن نحصلَ على إجاباتٍ كاملةٍ ومقنعةٍ عن الأسئلة الأربعة المتسلسلة، دون أيّ نقص، حتى نتمكّن من إطلاقِ صفةَ “المعارض الحقيقي” على الشخصِ الذي ينتفضُ ضدَّ نظام حكمٍ ما، وحتى نتمكن من الاعتمادِ على صوتهِ على أنه الصوت الساعي إلى التغيير نحو الأفضل.
الواقعُ العملي هو الحيّز الذي تُختبر فيه الإجابات عن الأسئلة السابقة، فمن الناحيةِ النظرية، قد يدلي البعضُ من “المعارضين” بإجاباتٍ توحي بوجود الرغبة في التغيير، إلا أن ممارسة هذه الإجابات على أرض الواقع، قد تشيرُ إلى العكسِ تماماً، لاسيما حين يستغرق الأمر وقتاً طويلاً، مثلما استغرقته الأزمة السورية، فالواقعُ العملي هو المحك، وهو الحَكم.
لو حاولنا تقييمَ المعارضة السورية المتمثلة بالائتلاف السوري المعارض والتشكيلات العسكرية المتعدّدة المرتبطة به، وفق الأسئلة السابقة، فما الذي يمكن استنتاجه؟.. بالتأكيد، سيكون الاستنتاج مخزياً ومخيباً، فالأعوامُ العشرة من عمر الأزمة السورية، التي كانت بمثابةِ اختبارٍ لنوايا الائتلاف ومزاعمهِ بشأن التغيير، عرّت حقيقة هذا «الكيان المعارض» وكشفت مدى انغماسهِ في الظلام والقمع والاستبداد ورفض الآخر مثله مثل النظام الذي يدّعي أنه يسعى إلى تغييره.
إن معارضةَ نظامٍ قمعيٍّ عبر استخدام وسائل قمع النظام ذاته، ومعارضةَ مشروعٍ بعثيٍّ من خلال مشروعٍ أكثر بعثيةً من حيث المنهج والفكر، وتشكيل فصائل متطرّفة تمارس العنف أكثر من النظام نفسه، ورفض الآخر المختلف دينياً أو عرقياً أو قومياً أكثر من النظام المُنتَفض ضدّه، وإتباع سياسة الانفعال والانتقام والتطرّف في الخطاب، وغيرها من المسائل التي لا علاقة لها بالفعل الثوري، تؤكد أننا لا نقفُ أمام معارضة وإنما أمامَ سلطةٍ قمعيةٍ مشابهةٍ تسعى للإطاحة بالسلطة القمعية القائمة والجلوس على كرسيها.
ليس هناك ما يمكن أن نطلقَ عليه اسم «المعارضة» ضدَّ نظامٍ استبدادي ما، ما لم تكن هناك إرادة حرّة ورغبة عميقة وقوية في التغيير الحقيقي، أي التغيير الذي لا يقتصرُ على المظاهرِ والشكليات، وإنما يمتدُّ ليشملَ مختلف الجوانب، السياسية، الاجتماعية، الثقافية، التربوية، والتعليمية، والاقتصادية، والذهنية.. إلخ، فالمعارضُ الحقيقي، لا يثورُ ضدَّ شخصَ الحاكم المستبد وحسب، وإنما يثور ضدَّ كل ما أفسده الاستبداد والقمع في الفرد والمجتمع والدولة.