يشنّ الجيش التركيّ، منذ يوم الأربعاء الماضي، عدواناً همجياً جديداً على مناطق الإدارة الذاتيّة لإقليم شمال وشرق سوريا، عبر طائراته الحربيّة والمسيّرةِ إلى جانب المدفعية والهاون, مستهدفاً البنية التحتية والخدميّة من محطاتٍ للكهرباء والنفط والغاز، إضافةً إلى معامل ومصانع وأفران ونقاط طبيّة، فضلاً عن منازل وممتلكاتٍ المدنيين، ونقاطٍ ومواقع لقوى الأمن الداخليّ، على طول الشريط الحدوديّ، متسبّباً بسقوط عشرات الشّهداء والجرحى، جلّهم من المدنيين، بينهم أطفالٌ ونساءٌ ومسننين، عدا الخسائر المادية الجسيمة.
هذا العدوانُ الجديد جاء بعد الهجوم الذي استهدفَ مقرّ شركة الصناعات الجويّة والفضائيّة في أنقرة، حيث بدأ الجيش التركيّ بشنِّ هجومه على مناطق الإدارة الذاتيّة عقب استهداف الشركة بساعاتٍ قليلة، أي قبل أن تَظهرَ نتائج التحقيقات، وقبل أن تتبنّى أيّ جهة العملية، ما يُظهرُ حجم الحقد الذي تكنّهُ الحكومةُ التركيّة حيال مناطق شمال شرق سوريا، ومدى استغلالها لأيّ حدثٍ أمنيٍّ داخليّ، لتنفيذِ اعتداءاتها الوحشيّة ضدَّ شعوب هذه المناطق.
إن تركيز تركيا، هذه المرة أيضاً، على البنية التحتيّة والخدميّة في شمال وشرق سوريا، إنما هو محاولة جديدة لضرب الإدارة الذاتيّة من بوّابة الاقتصاد، بعد أن فشلت في ذلك من خلال الإرهابيين والمرتزقة المدعومين من قبلها، إذ تسعى من وراء هذا الاستهداف، إلى إضعاف الإدارة اقتصادياً، وحرمان أبناء مكوّناتها من مقوّمات الحياة وسُبل العيش، وتجويعهم وتشريدهم وتهجيرهم، ونشر الفوضى والذعر، بما يحدث شرخاً في العلاقة والثقة بين الإدارة والمكوّنات التي تحيا بسلام وأمان وتعايش في ظلّها، ونحن على يقين بأن أبناء المنطقة يدركون حقيقة هذه الخطط التي تعملُ عليها تركيا كجزءٍ من هدفها المتمثّل بإحباط مشروع الإدارة الديمقراطيّ.
إننا نؤمنُ بأن الحكومة التي تفكّر بهذه العقلية، لا يمكن لها أن تكون طرفاً في حلّ أي أزمةٍ أو قضية، بل إنها تكون سبباً رئيسياً من أسباب تفاقم أيّ أزمةٍ قد تتدخّل فيها، كتدخّلها في الأزمة السوريّة ودورها السلبيّ الكبير في تفاقمها وإطالة عمرها، واستغلالها لرغبةِ الشعب السوريّ في الخلاصِ من الاستبداد بتحويل قسمٍ من أبنائه إلى مرتزقة يعملون لصالح أجنداتها، ودعمها المتواصل للتنظيمات الإرهابيّة كداعش وجبهة النصرة، واستخدامها لهذه التنظيمات في محاربة السوريين أنفسهم، خصوصاً في شمال شرق سوريا، واستغلالها لقضية اللاجئين السوريين واستعمالهم كورقة ضغط وابتزاز ضدّ الغرب.
كما نؤمنُ بأن الحكومة التي تعتمد على الخيارات العسكريّة في أغلب تحرّكاتها، وتنتهج طرق العنف والقمع والتدمير في سياساتها، مثلما ظهرَ ذلك جلياً خلال الأعوام الفائتة، سواءً داخل تركيا أو خارجها كما في سوريا والعراق وليبيا وغيرها، لا يمكنُ لها أن تلجأ بسهولة إلى الحوار والسلم كأدواتٍ في حل القضايا، حتى وإن حاولت إظهار ذلك إعلاميّاً لأهدافٍ داخليّةٍ أو خارجيّة، لأن الحوار لابدَّ أن يسبقه تغييرٌ في الذهنيّة، ولابدَّ أن تسبقه النيّةُ الواضحة من خلال اتّخاذ خطوات عمليّة تشي بذلك، وهذا ما لم نلاحظه في سياسات الحكومة التركيّة وسلوكياتها، بل على العكس تماماً، إنها تنحدر يوماً بعد يوم أكثر فأكثر إلى المزيد من الغطرسة والعنف والقمع.
بدون شكّ، ما كان يمكن لتركيا أن تتمادى في قرصنتها وعنجهيتها وإجرامها، وأن تتجاوز حدود القوانين الدوليّة، مراراً وتكراراً، باستهداف المدنيين والبنية التحتيّة الذي يعدُّ جريمة حربٍ وجريمة ضدَّ الإنسانيّة، لولا الصمت الدوليّ، لاسيما الولايات المتّحدة الأميركيّة وروسيا، فهذا الصمت يتحمّل مسؤولية انتهاك تركيا للقوانين الدوليّة بقدر ما تتحمّله تركيا، كونه يشكّل حافزاً مشجّعاً لها على الاستمرار في ارتكاب المزيد من الجرائم والانتهاكات دون رادع.
إن هذا الصمت مدانٌ مثله مثل ممارسات تركيا، إذ يُفترض أن تُحاسب أنقرة على ارتكابها لمثل هذه الجرائم، ليس لأنها تنتهك القوانين الدوليّة وتقلّل من هيبتها العالمية فحسب، بل لأنها أيضاً تقوّض وتعرقل جهود مكافحة الإرهاب وتغذيه وتعيد إليه الحياة والنشاط من جديد، هذا الإرهاب الذي يعاني منه العالم بأسره وليس شمال شرق سوريا فحسب.
ختاماً، لابدَّ من التأكيد بأن تركيا لا تستهدف حزباً أو تياراً بعينه كما تدّعي، بل تستهدف كل نشاط أو تحرّك تفوح منه رائحة كردية، لذا، ينبغي على جميع الفعاليات والتنظيمات والقوى والأحزاب السياسيّة في شمال وشرق سوريا، مع أبناء وبنات شعوب ومكّونات المنطقة، الوقوف صفاً واحداً إلى جانب قوات سوريا الديمقراطيّة وقوى الأمن الداخليّ، في مواجهة هجمات تركيا وتهديداتها ومخطّطاتها الخبيثة المتواصلة الرامية إلى تدمير المكتسبات التي تحقّقت في المنطقة بفضل دماء الشهداء، ونحن على يقين بأن لا أحد يمكنه أن يكسر إرادة شعوب متمسّكةٍ بقضاياها وأهدافها وطموحاتها نحو الحريّة، مقاوِمةً، مدافعِةً عنها بكلِّ ما أوتيت من قوة وصمود وبسالة.