طلال محمد: سوقٌ سوداء
تتّسعُ دوائرُ الصراعِ بصورةٍ مرعبة؛ تتمدّدُ الأزماتُ وتتفاقم؛ تتسلّلُ الحروبُ من أرضٍ إلى أرضٍ كنارٍ تلتهمُ حقلاً وراء حقل؛ يتنامى العنفُ شيئاً فشيئاً ويزدادُ ضراوةً وقساوة؛ تتحوّلُ مشاهدُ القتلِ والتدميرِ إلى لحظاتٍ بصريّةٍ تُعرضُ على الشاشاتِ سريعاً ثمَ تُنسى وكأنّها لم تقع؛ تغادرُ مئاتُ الأرواحِ يوميّاً هذه الأرض كمجردِ أرقامٍ قد تُذكرُ عبر الإعلامِ وقد لا تُذكر؛ وأمامَ هذه البشاعة، لا قوانينَ دوليّة تنطقُ بلسانٍ واضحٍ وحاد، ولا منظّمات إنسانيّة وحقوقيّة تتحرّكُ كما ينبغي لها أن تتحرّك، وحدها آلاتُ القتلِ تتحرّكُ وتتفنّنُ في تمزيقِ الأجسادِ ودفنها تحت الترابِ أو تحت الأنقاض.
قبلَ 12 عاماً، صاحَ سوريٌّ في الشارعِ بعد أن نجا من برميلٍ متفجّرٍ سقطَ على منزله: يا ساركوزي، أنقذنا!، كانَ ينادي الرئيس الفرنسيّ آنذاك، بلغةٍ فرنسيّةٍ جيّدةٍ، لكن بلسانٍ خائفٍ مرتجف.. انتهت ولاية ساركوزي، فجاءَ هولاند، وانتهت ولايته، فأتى ماكرون، ولا يزال ذلك السوريّ ينادي: أنقذونا!. ترى مَن سيلتفت إلى هذا البلد المنهك في هذا العالم الذي تحوّلَ إلى حلبةِ صراعٍ أو مصارعةٍ لا قواعدَ لها ولا شروطَ ولا نظام؟ ومن سينقذُ هذا العالم الذي يهوي شيئاً فشيئاً إلى الهلاك أيّها السوريُّ البائس؟.
في هذه الحقبةِ الدمويّة؛ في هذه الحروبِ التي تُرمى فيها المتفجّراتُ بالأطنانِ دفعةً واحدةً؛ في هذه السوقِ “السوداء”، كلُّ شيءٍ قابلٍ للبيعِ والشراء، وكلُّ شيءٍ متوقّع، لا ثباتَ ولا استقرار، فالرقعةُ الجغرافيّةُ التي تظنُّها هادئةً قد تُحالُ في لحظةٍ ما إلى كتلةٍ من جحيم دون أن تفهمَ السبب، والصديقُ الذي يتحالفَ معكَ في الصباح قد يغدو عدوّاً في المساء دون أن تُدركَ السبب، واللسانُ الذي يدافعُ عنكَ على المنابر قد يصبحُ بغمضةِ عينٍ خصماً شرساً يسهرُ على معاداتك، والبندقيّةُ التي تساندكَ وتعاضدكَ الآن قد تُوجّهُ إليكَ غداً فتُرديكَ قتيلاً دون أن تُدركَ السبب.
أمامَ هذه “المعادلة التجارية” المتقلّبة الأسباب والنتائج، لا مكانَ للمشاعر الإنسانيّة، ولا مكانَ لانتظارِ “الفرجِ” اعتماداً على الآخر، ولا مكانَ “للقلوب الطيّبة” التي لا تزالُ تؤمنُ بأن هناك مَن سيدافعُ عن مآسيها من منطلقٍ إنسانيٍّ، ربما لا ينفعُ أكثر ما ينفعهُ “منطق التاجر اليقظ” الذي لا يخطو خطوةً واحدةً نحو مشروعٍ ما دون أن يتيقّن أولاً من إمكانيّة الربح، ولا يعقدُ شراكةً مع أحد قبل أن يتعمّقَ في دراسةِ المشروع وتفاصيلهِ وفرصِ الانسحابِ عند الضرورةِ دون خسائر.
في زمنِ التجارةِ الصرفة، عليكَ أن تجيدَ اللعب، ألا تُظهرَ نفسكَ كمستهلكٍ لا يعرفُ شيئاً عن خُدعِ السوقِ وفنونها، ألا تعتمدَ “بطيبةِ قلبٍ” على تاجرٍ غريبٍ عنكَ في تسويقِ منتجكَ، ألا ترمي صنارتكَ في بحيرةٍ لستَ متأكّداً من توفّر السمكِ فيها، أن تبتعدَ عن مبدأ “لعلّ وعسى”، ألا تشعرَ بالكسلِ والنعاسِ فتُسرقُ ممن لا يشعرونَ بالكسلِ والنعاس، أن تدرّبَ عينيكَ على الرؤيةِ في الظلام تماماً كعينيّ القط، ألا تنادي أحداً: أنقذني، وأنتَ لا تعلمُ ما إذا كان منقذاً أم شريكاً في مأساتك!.