شورش درويش: ثمة ما هو مشوّش في رأس تركيا
(السلام- المركز الكردي للدراسات) .. لم يمسك الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بعد برأس الخيط الذي يساعده في الإبقاء على النظام الإقليمي القديم قائماً، إذ لم تعد إيران بعد الضربات التي تلقّتها هي وأذرعها كما كانت قبل السابع من أكتوبر، ذلك أنّ الحرب التي جرفت السواتر الخارجية للنظام الإيراني في غزّة ولبنان وسوريا، باتت أقرب إلى تجريف سواتر إيران الداخلية على ما تقوله سياسة بنيامين نتانياهو التطوّرية باتجاه حرب هدفها تحجيم دور إيران جهد المستطاع وتحطيم طموحاتها النووية. فالحرب وفق التصريف الإسرائيلي ليست حرب حدود وتطهير ما ورائها، بقدر ما هي حرب تغيير كبرى تطمح من خلالها إلى اجتراح نظام إقليمي جديد لن تكون إيران، وبدرجة أقل تركيا، في صميمه، إنّما على حوافه منزوعة المليشيات وضعيفة التأثير.
لطالما شكّلت حركة حماس نقطة التقاء النظام الإقليمي القديم. لم يسعف مبدأ «وحدة الساحات» تدهور الحركة كما لم تسعفها نوبات الغضب الأردوغانية، التي بلغت منتهاها مع تشبيه أردوغان نتانياهو بـ«هتلر» وتشبيه سياسات إسرائيل بأنها «نازية» على ما يحمله التشبيهان من تبلّد وقلّة فهم بحيثيات الإبادة اليهودية وحساسية مثل هذه التشبيهات. لم تكن تصريحات أردوغان مجرّد فورة غضب واستعراض مبنيّ على سلاطة لسان الرئيس المعتادة، بقدر ما كانت هذه التصريحات تنصبّ على مسألتين: إقناع الأتراك المحافظين والاتجاهات الإسلامية بوقوفه الصلب مع الغزّاويين عبر الدفاع المستميت عن حركة حماس، وثانياً وراثة إيران في غزّة والدخول على خط الهدنة والتسوية بين «حماس» وإسرائيل.
يعلم أردوغان أن غاية الحرب ليست كما يحاول في تصريحاته الأخيرة القول بأنها تهدف للوصول إلى قلب الأناضول، إذ ترمي الحرب إلى إنهاء دور إيران الإقليمي، وأن نهاية هذا الدور يعني انقضاء النظام الإقليمي القديم الذي تربّعت طهران وأنقرة على كرسيه. ومن المهم تفهّم هاجس تركيا باحتمالية تغيّر شكل المنطقة برمّتها انطلاقاً من احتمالية تشظّي إيران نفسها حال تعرّضها لضرباتٍ خارجية محكمة ومدمّرة بشكلٍ ينعكس على أدوارها وأهميتها كآخر بلدٍ في حزام حلف الناتو على تخوم إيران وروسيا مستفيد من التناقضات الغربية مع هاتين الدولتين. لكنّ الأهم لتركيا هو أن لا يكرّر كرد إيران ما حققه كرد العراق وكذا سوريا.
وفيما خصّ ما هو مشوّش في رأس تركيا تبرز أفكار متصلة باحتمالية تعرّض النظام الإيراني لضربة خارجية موجعة تفضي إلى تهشيم أوضاعه الأمنيّة والعسكرية الداخلية، وبطبيعة الحال قد يفضي ذلك إلى موجة نزعات حكم ذاتي داخليّة.
داخل هذا الجو، يبدو أن تركيا تقترب إلى مراجعة ثلاث مراحل أفضت إلى تشكّل كيانية كردية على تخومها. ففي عام 1991، خاطب الرئيس التركي الراحل تورغوت أوزال حلفاءه الغربيين لإعادة مئات آلاف اللاجئين الكرد العراقيين إلى ديارهم وأن بلاده لا تستطيع إيواء «مليون معوز». ساهمت رغبة الإعادة تلك في إنشاء منطقة حظر الطيران في كردستان العراق لتوفير المأوى للاجئين طبقاً لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 688. أمّا ثاني ما تعتبره تركيا أخطاءها، جاء بعد عام من تولي حزب العدالة والتنمية الحكم. وقتذاك رفضت تركيا الانخراط في جهود إسقاط نظام صدام حسين، الأمر الذي وفّر على كرد العراق حدّة التدخلات التركية التي كان من الممكن أن تعرقل جهود الكرد في تطوير صيغة الحكم الذاتي، فضلاً عن أن نأي أنقرة رفعَ القوى الكردية العراقية إلى مصافي الحليف المباشر لواشنطن خلال عملية الإطاحة بنظام صدام حسين عام 2003. بعد الدرس العراقيّ جاء تدخّل الولايات المتحدة في سوريا ودعمها وحدتي حماية الشعب والمرأة في عملية محاربة تنظيم داعش خلال معركة كوباني 2014، ورفض تركيا القاطع محاربة التنظيم والاستمرار في دعمه وغض الأنظار عن تحرّكاته، وهي المقدّمة التي ستقود إلى تحالف بين قوات سوريا الديمقراطية والتحالف الدولي لمحاربة «داعش».
من خلال مراجعتها مثل هذه «الأخطاء»، تنبع جملة أسئلة مربكة لتركيا: ماذا لو بلغت الحرب إيران وحظي الكرد بحقوقٍ كتلك التي حقّقوها في العراق وسوريا؟ وكيف ستتمكن أنقرة من التفاعل مع مسائل محتملة كإسقاط النظام الإيراني، وهل ستكرّر «خطأي» العراق وسوريا واختيار معارضة الحرب والنأي عن مجرياتها إن وقعت؟ وهل ستحاول تجديد مقاربة السلام تجاه حزب العمال الكردستاني وتوظيف ذلك في سياق التصالح مع ما حقّقه الكرد في العراق وسوريا؟
نظرياً، ليس لدى الحكومة التركية وجهة نظر موحّدة لمآلات الأوضاع في المنطقة. فهل يمكن أن تستبق أنقرة التحوّلات الكبيرة في المنطقة كأحد السيناريوهات الممكنة وذلك عبر تصفير مشكلاتها الداخليّة التي تمهّد الطريق لتصفيرها مع جوارها وليس العكس؟ إذ إن جوهر مشكلات تركيا مع جوارها هو داخليّ ينعكس على الخارج/جوارها. مثل هذا السيناريو، يقودنا للسؤال عن احتمالات إحياء عملية السلام الكردية- التركية، وهل ستعيد الكرّة بعد تجريب حلولٍ عنفية عدمية وإنشاء الأحزمة الأمنية في شمال سوريا وكردستان العراق؟
اتساقاً مما يطوّق تركيا من أحداث تخصّ إيران وإسرائيل، صافح دولت بهجلي بالوكالة عبدالله أوجلان، عندما صافح الرئيس المشارك لحزب المساواة والديمقراطية للشعوب (DEM) تونجر باكرهان في الجلسة الافتتاحية للدورة التشريعية الجديدة للبرلمان التركي. فقبل المصافحة، كان بهجلي يرى في الحزب أنه ممثل «الإرهاب» و«الانفصال» وأنه صوت وصورة حزب العمال الكردستاني. قد توحي مصافحة بهجلي وحديثه الملغّز عن «السلام» بإمكانية تجدد عملية السلام،. ولأجل ذلك، أشار باكرهان، وبالمثل القيادي الكردي السجين صلاح الدين دميرتاش، إلى وجوب مخاطبة أوجلان، في إشارة إلى أن «العنوان» الذي ينبغي على الدولة التوجّه إليه ما يزال هو مُعتَقل إيمرالي، وأن لا تعدّد في مراكز التفاوض بالنسبة للكرد.
لكن مقابل ذلك، ثمة ما يزيد التشويش في تفسير ما يدور في رأس أردوغان وبهجلي. فكرة الحرب ما تزال قائمة. وإلّا لمَ حشدت وراكمت تركيا قوّاتها في كردستان العراق؟ ولمَ تواصل مسيّراتها القتل في شمال شرقي سوريا؟ ولم لا تلمّح إلى تغيير سياساتها في المناطق السورية المحتلّة؟ داخل هذا المد باتجاه السلام والشد باتجاه الحرب، تسكن تركيا الحالية. وكل ما يجري، يأتي على وقع ما ستتعرّض له إيران في المستقبل وما يتطلّبه ذلك من تكيّف تركيّ مع واقع مستجد قد يكون فيه لكرد إيران، وحتى درجة ما لحزب الحياة الحرّة (PJAK)، دور في مستقبل الكرد في إيرن والمنطقة. ومثل هذا الافتراض قد يضع تركيا أمام خيارين: إما توسيع حقل القتل والحرب إلى حدودها الشرقية، أو إيجاد صيغ جديدة للتعامل مع واقع كرديّ قيد التشكّل دون اللجوء للعنف والحلول العسكرية. قد تكون الإجابة على كل ذلك مرهونة بحالة السلام الكردية- التركية وارتدادتها على مجمل المحيط الكردي الذي يلفّ تركيا جنوباً.
دون ذلك، ستبقى تركيا على خطّ الصدع إذا طرأت على الأوضاع في إيران تغيّرات عميقة.