شورش خاني: نماذج الحكم في الشرق الأوسط.. صراع البدائل

(السلام- المركز الكردي للدراسات) .. تشهد منطقة الشرق الأوسط تحولات سياسية غير مسبوقة، حيث تتآكل أسس الدولة القومية التقليدية وسط صراع محموم بين نماذج حكم متنافسة تسعى إلى فرض رؤاها المستقبلية. ومع كل أزمة جديدة، يصبح واضحاً أن النظام الإقليمي الذي تأسس منذ اتفاقية سايكس–بيكو يواجه تحديات وجودية تجعله عاجزاً عن الصمود. في هذا السياق، لا تقتصر البدائل المطروحة على اجتهادات نظرية، بل تتجلى كمشاريع سياسية متكاملة تتصارع في الميدان لإعادة تشكيل خريطة السلطة والإدارة.
ضمن هذا التنافس، تبرز ثلاثة نماذج رئيسية للحكم: الإسلام السياسي، الذي تتبناه تركيا عبر رعايتها لمشروع الإخوان المسلمين؛ النيوليبرالية الغربية، التي تهدف إلى إعادة هيكلة المنطقة من خلال تفكيك الدول المركزية وتحويلها إلى كيانات لا مركزية متكيفة مع الاقتصاد العالمي؛ وأخيراً، الكونفدرالية الديمقراطية، التي برزت كنموذج بديل في شمال وشرق سوريا، مستلهمة من أفكار عبدالله أوجلان حول تجاوز الدولة القومية وبناء نظم ديمقراطية تشاركية تعتمد على الإدارة الذاتية.
الإسلام السياسي: مشروع تركيا الإقليمي
تدرك تركيا، باعتبارها أحد الفاعلين الرئيسيين في الشرق الأوسط، أن انهيار الدولة القومية يفتح المجال أمام مشاريع بديلة قد تهدد مصالحها الاستراتيجية. ومن هذا المنطلق، دفعت تركيا بقوة نحو ترسيخ الإسلام السياسي كبديل جاهز للأنظمة العربية التي تشهد تراجعاً، مستثمرة في إرث الإخوان المسلمين وقدرتهم على التأثير في المجتمعات عبر خطاب ديني تعبوي يعيد إنتاج الهويات الدينية كأساس للشرعية السياسية.
لكن رغم هذا الزخم الأيديولوجي، يواجه مشروع الإسلام السياسي عقبات كبرى، أبرزها الرفض القاطع من قبل الأنظمة العربية التي تعتبره تهديداً وجودياً، فضلاً عن النكسات التي تعرض لها الإخوان المسلمون بعد سقوط حكمهم في مصر وتراجع نفوذهم في دول الخليج. أمام هذه التحديات، اضطرت أنقرة إلى إعادة النظر في استراتيجياتها، وتسعى إلى التكيف مع التحولات بدلاً من الاستمرار في صدام مفتوح مع القوى الإقليمية.
النيوليبرالية الغربية: تفكيك الدولة المركزية
في المقابل، تعمل القوى الغربية على الترويج لنموذج النيوليبرالية السياسية كبديل عن الدولة المركزية، حيث تدعم أنظمة حكم لا مركزية تعزز من سلطة النخب الاقتصادية وتحول الدولة إلى وسيط بين رأس المال العالمي والمجتمعات المحلية. هذا التوجه، الذي يسوَّق على أنه الأكثر انسجاماً مع متطلبات العولمة، ينطوي على مخاطر كبيرة، خصوصاً في المجتمعات التي تعاني من انقسامات إثنية وطائفية عميقة بدلاً من تعزيز الحكم الذاتي والاستقرار السياسي.
الكونفدرالية الديمقراطية: نموذج يتحدى المركزية والنيوليبرالية
على الضفة الأخرى، يظهر نموذج الكونفدرالية الديمقراطية كطرح مغاير جذرياً لكل من الدولة القومية والنظام النيوليبرالي. ففي شمال وشرق سوريا، تطور هذا النموذج ليقدم رؤية سياسية جديدة تتجاوز مفهوم الدولة القومية التقليدية، حيث يقوم على بناء هياكل حكم ذاتي تعتمد على التشاركية والمجالس الشعبية والاقتصاد المجتمعي، مما يمنحه مرونة أكبر في التكيف.
غير أن هذا المشروع، رغم نجاحه النسبي في خلق نموذج مستقر ضمن بيئة مضطربة، يواجه ضغوطًا هائلة، سواء من الدول القومية التقليدية التي تراه تهديدًا مباشرًا لوحدتها السياسية، أو من القوى الإقليمية مثل تركيا، التي تدرك أن ترسخ هذا النموذج قد يشكل خطرًا استراتيجيًا على هيمنتها الإقليمية.
هنا تحديدًا، يكمن إدراك تركيا العميق لأهمية عبدالله أوجلان، ليس فقط كقائد لحركة تحررية، بل كمفكر يقدم نموذجًا مضادًا لكل مشاريعها في المنطقة. منذ سنوات، تتعامل أنقرة بحذر شديد مع إرث أوجلان الفكري، فهي وإن كانت ترفضه رسميًا وتعمل على طمس تأثيره، إلا أنها تدرك في الوقت نفسه أن أفكاره باتت تمتد إلى ما هو أبعد من الحركة الكردية، لتشكل أساسًا فلسفيًا لنموذج سياسي ينافس الإسلام السياسي ذاته في قدرته على تقديم بديل شامل للدولة القومية. ولهذا، فإن التعامل التركي مع ملف أوجلان لم يكن يومًا مجرد قضية أمنية، بل هو جزء من معركة أيديولوجية أعمق، تسعى أنقرة فيها إلى منع تحوله إلى مصدر إلهام لحركات سياسية أوسع تتبنى رؤيته حول الديمقراطية التشاركية والتحرر المجتمعي.
هل نحن أمام ولادة نظام سياسي جديد؟
إن صدام هذه البراديغمات الثلاث يعكس عمق الأزمة البنيوية التي يعيشها الشرق الأوسط اليوم. فالدولة القومية التقليدية لم تعد قادرة على فرض سلطتها المطلقة، والإسلام السياسي لم ينجح في تقديم نموذج حكم مستدام، والنيوليبرالية الغربية تصطدم بحدود قدرتها على فرض حلول جاهزة لمجتمعات تعاني من إرث طويل من الصراعات حيث ان هذه المجتمعات لم أو ليس من الضرورة أن تمر بمرحلة عصر النهضة ونسخ التجربة الأوربية، حيث ان كل مجتمع وحسب ظروفه البنيوية يعيش نهضته وفقا للإرث الثقافي الخاص به. في ظل هذا الواقع، يبقى السؤال المطروح: هل يستطيع نموذج الإدارة الذاتية بمضامينه السياسية والاجتماعية، رغم الضغوط والتحديات، أن يشكل القاعدة المستقبلية لنظام سياسي جديد في المنطقة؟ وهل تدرك الدول الإقليمية، وعلى رأسهم تركيا، أن زمن الحلول التقليدية قد انتهى، وأن التكيف مع الواقع الجديد بات أمرًا لا مفر منه؟