شورش خاني: السلام وفوبيا التعددية القومية في تركيا
(المركز الكردي للدراسات/ السلام) .. تقف تركيا اليوم في مفترق طرق حاسم في مقاربتها للقضية الكردية بعد أن بات معروفاً حجم خسائرها جراء سياساتها السائدة والمستمرة منذ تأسيس الجمهورية عام 1923. وتأتي سلسلة التصريحات التي يطلقها قادة الائتلاف الحاكم في تركيا، وعلى رأسهم دولت باهجلي، وسط مسار مليء بالتناقضات. فمن جهة، تطلق الدولة عبر أذرعها السياسية تصريحات متفاوتة عن الاستعداد للحل السياسي. ومن جهة أخرى، تأمر الدولة نفسها أجهزتها القضائية بالاستيلاء على ثلاث بلديات يديرها حزب المساواة والديمقراطية (DEM) بشكل متزامن. إن هذا المسار المتلاطم يطرح تساؤلات عن مدى استعداد باهجلي وحلفائه الذهاب نحو مشروع للحل بدلاً من عقلية «صاحب الأمر» الذي يمن بالعفو على الناس، عوضاً عن تغيير المسار باتجاه حل دستوري يشمل الجميع.
إن هذا المسار المرتجى يمثل خياراً استراتيجياً ضرورياً لتحقيق الاستقرار الداخلي والخارجي. وصارت رؤية الحل التي يطرحها الجانب الكردي، سواء من طريق زعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله أوجلان أو عبر القيادة الميدانية في قنديل، نافذة نحو حل شامل.
منذ بدايات الجمهورية، كان هناك شك كبير لدى الكرد فيما يتعلق بجديّة أنقرة في حل المسألة الكردية، حيث يعود هذا الشك إلى تجربة تاريخية طويلة من التنصل والإقصاء. ففي فترة تأسيس الجمهورية التركية، التي شهدت تضحيات كبيرة من الكرد في سبيل الاستقلال، كانوا يتمتعون بدور استراتيجي في هذا التأسيس. كما ساهموا في المعارك المفصلية في تاريخ الدولة، كمعركة ملاذكرد عام 1071 وجالديران عام 1514 ومرج دابق عام 1516. إلا أن التحالف الذي جمع الكرد والأتراك لتحرير البلاد تعرض إلى خيانة مع تبني دستور 1924. وحسمت بذلك تناقضات الجمهورية الناشئة حيث صاغتها نخبة قومية بهدف تأسيس دولة أحادية الهوية، متجاهلة تماماً حقوق الكرد والشعوب الأخرى. وشكل هذا الدستور أساس سياسة ممنهجة لطمس الهوية الكردية ضمن «الدولة القومية التركية» وأسهم في إقصاء الكرد عن أي دور مؤثر في مؤسسات الدولة الناشئة لتبدأ مرحلة عقدة الهيمنة العرقية المغلقة.
ومع تسعينيات القرن الماضي، تصاعدت هذه السياسات القمعية عبر سلسلة من العمليات العسكرية في شمال كردستان. ورداً على ذلك، قدمت الحركة الكردية التحررية بدائل فكرية جذرية كان من أبرزها مفهوم التعددية القومية داخل الكيان الواحد، والذي صيغ في تعبير «الأمة الديمقراطية» وفق عبد الله أوجلان.
تقوم هذه الرؤية على إحلال التعددية والتعايش كأسس للتعاون بين جميع المكونات بديلاً عن «الهوية الأحادية».
في كتابه «الدفاع عن الشعب»، الذي طبع في فبراير/شباط 2005، أشار أوجلان إلى هذا النموذج التحليلي للسياسة الدولة التركية على أن «الجمهورية التركية تسعى لحماية ذاتها بعقلية متزمتة لأبعد الحدود، تظن بها أن كل يوم تعيشه في الوضع القائم هو مكسب لها. إنها فترة مشابهة بدرجة قصوى لأواخر عهد الإمبراطورية العثمانية» (عبد الله أوجلان، الدفاع عن الشعب، ص 401). ويكشف هذا الاقتباس عن فهم أوجلان لطبيعة الدولة التركية واعتقاده بأن «عقلية الهوية الأحادية القومية في كيان تعددي» هي حجر العثرة أمام تحقيق الاستقرار طويل الأمد.
في تصريحاته الأخيرة، أكد أوجلان على قدرته قيادة مرحلة جديدة لوقف العنف والعودة إلى طاولة السياسة واعتماد السياسة والحوار كأدوات للحل. ورغم العزلة المفروضة عليه، تبرز هذه التصريحات تمسكه بالحل السلمي الذي يطرحه بشكل متواصل منذ منتصف التسعينيات.
وبخصوص التحركات الأخيرة، أعلنت قيادة حزب العمال الكردستاني أن أي قرار يتخذه أوجلان هو الأساس في استراتيجيتهم، مؤكدة في بيان التزامها بأي قرار يتخذه. وللحزب تجارب سابقة بوقف إطلاق النار من جانب واحد، كما حدث سابقاً في عام 2015، حين تنصلت أنقرة من الالتزامات السابقة ولم تلتزم بإطار السلام.
يتساءل الكرد اليوم عمّا إذا كانت الدولة التركية على استعداد للخروج من حالة الذعر التاريخي ومن إطار الدولة القومية الأحادية لتبني نموذج شامل يحقق مطالب جميع شعوب هذه الجغرافيا التي بات اسمها تركيا منذ عام 1923 فقط، أم أنها ستبقى أسيرة سياسات الإنكار والتحجر السياسي في سردية الإقصاء؟ إن تجاهل المتغيرات السياسية والاقتصادية المتسارعة في الشرق الأوسط وتنامي الوعي الوطني الكردي وفق براديغما منظمة في المنطقة سيعمّق عزلة تركيا ويُضعف قدرتها على بناء تحالفات إقليمية متماسكة، خاصة أن الكرد باتوا يمثلون ركيزة مهمة في مواجهة التحديات الإقليمية مثل مكافحة الإرهاب وإرساء الاستقرار.
لا يعتمد قرار تركيا إطلاق مسار سلام جديد على تخفيف حدة التوترات الداخلية فحسب، بل يحمل في طياته تداعيات جيوسياسية واسعة النطاق. فالتعاون مع الكرد، على أسس دستورية عادلة، من شأنه تعزيز الأمن والاستقرار في الداخل ويمهّد الطريق لدور تركي فاعل في الشرق الأوسط.