سلام أحمد – الجيل الصاعد في الأزمة السورية
بات المتابع لمجريات الأزمة السورية، خلال السنوات التسع الماضية؛ يتناولها كخبره اليومي، ففي كل يومٍ يتابع على قنوات الأخبار آخر التطورات العسكرية والسياسية التي تجري في المنطقة، وكيف أن خارطة الصراع تتغير سنوياً، أو حتى شهرياً في بعض الحالات، فمن جنيف إلى سوتشي إلى استانة؛ توالت الاجتماعات التي تزعم حلّ الأزمة السورية سياسياً، لكن تبين في النهاية أن كل تلك الاجتماعات والمؤتمرات؛ ما هي إلا مؤامرات، وما هي إلا وسيلة سطحية قام بها موظفو الأمم المتحدة وغيرهم من أجل تحقيق أهداف الدول العظمى التي تمارس سياستها العميقة في إطالة عمر الأزمة؛ حتى يتفقوا على تقاسم الثروات في الشرق الأوسط.
وكان من نتائج هذه الأزمة التغيير في التركيبة الفكرية للشعب السوري إيديولوجياً وعقائدياً، ورغم أن المخضرمين الذين عايشوا فترة ما قبل العام 2011 لا زالوا موجودين حتى الآن، لكن هناك جيلاً كاملاً كبُر خلال الأزمة، وهو جيل الشباب؛ الذي يعتبر مستقبل هذا البلد، إذن فهناك خريطة أخرى يجب الالتفات إليها بعمق والتي تؤثر على خارطة الصراع، وهي خارطة الشباب الجيوفكرية.
إن العام الذي بدأت فيه الأزمة السورية في 2011 يعني أن الشباب الذين يحاربون الآن على الساحة السورية كانوا في ذلك العام أطفالاً بعمر العشرة أعوام؛ ولا يدركون معنى الأزمة أصلاً، لكنهم الآن باتوا رجالاً يحملون السلاح، ويحاربون – كلٌ حسب عقيدته – الطرف المعادي، وحسب التربية التعليمية والإيديولوجية التي يخضع لها هذا الشخص يتحدد توجهه السياسي والعسكري.
النظام السوري الذي اعتبر هذه الحرب؛ حربَ وجود بالنسبة للطائفة العلوية الموجودة في سوريا، يمكن استثنائه من قائمة التغيير في الذهنية الجمعية لشبابه، فهو منذ استلامه للسلطة في سوريا، وهو يمارس بروبوغاندا تجاه أبناء طائفته؛ مفادُها: أنكم إن خسرتم السلطة فقد خسرتم أنفسكم، وما حربكم -سواء في الماضي أو الآن- سوى حرب وجود تجاه الأغلبية السنية التي تسنُّ أسنانها لكي تلتهمكم متى سنحت لها الفرصة!
إذن البنية الذهنية للشباب العلوي بقيت كما هي؛ سواءً قبل الأزمة أم بعدها، وبمقارنة بسيطة بين الماضي والحاضر، نجد أن لا اختلاف في طريقة التعامل مع الأزمة كثيراً بين الزمنين، بل يمكن القول إنها باتت أكثر شراسةً في التعامل مع الضحية، والمقاطع المنتشرة على صفحات التواصل والمواقع الالكترونية توضح مدى الحقد المزروع في قلوب هؤلاء الشباب تجاه الطرف المعادي، والذي يُعتبر سورياً أيضاً.
ولا يغير وجود السنّة في جيش النظام من المعادلة شيئاً، فهم إما منتفعون من وجودهم ضمن هذا الجيش؛ أو مضطرون إلى ذلك، لعدم قدرتهم على الهرب والمغادرة. ومنهم من تعرض للاعتقال؛ وحتى القتل، لأنه رفض توجيه السلاح تجاه أخيه السوري.
الجيل الصاعد في الجيش السوري مؤمنٌ حتى اللحظة؛ أن الغلبة يجب أن تكون للنظام السوري، فحماية النظام هي حماية لهم.
بالنسبة للمعارضة السورية فقد بدأت القصّة عندما وجد السنة أنفسهم محكومين من قبل نظام طائفيّ جائر، ينتقم منذ أربعين عاماً من أعدائه المتمثلين بالأغلبية السنّية في سوريا، لذا عندما بدؤوا ثورتهم، كان لسان حالهم يقول كفى لحكم الأقلية، كانت القصة تحتاج إلى شرارة البوعزيزي لتصل نارها إلى سوريا، وتبدأ الاضطرابات. وتعرّضت هذه الثورة لتغيرات كثيرة خلال كامل فترة الأزمة، وخلالها أيضاً كان هناك جيل يكبر في ظل أفكار المعارضة السورية بأطرافها العديدة، فمنهم من التحق بتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وتشبّع بالفكر التكفيري حتى قام بذبح وإحراق أخوته السوريين، ومنهم من عرف أن الثورة باتت اسماً فقط وجلس في بيته، ومنهم من بقي في إدلب يحرسها من جيل النظام السوري، وتفرّقوا إلى فصائل كثيرة، ما بين معتدلين وإسلاميين ومتشددين.
استطاع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن يستغل دعمه للمعارضة السورية، وقام نظامه ببناء عقيدة ارتزاقية لدى قسم كبير من جيل الثورة في صفوف المعارضة، أشبعهم بالفكر الانكشاري الذي يحرق وينهب كل ما يقع تحت سيطرته، والجيش الوطني السوري الآن بات مضرب المثل لهذا الجيل، تم استخدام هذا الجيل في ضرب تجربة الإدارة الذاتية الديمقراطية في عفرين؛ ومؤخراً؛ سريه كانية (رأس العين) وكري سبيه (تل أبيض)، حيث ارتكبوا جرائم بحق أهاليهم من الكرد والعرب الموالين للإدارة الذاتية بحجج واهية لا علاقة لها بأي مفهوم للثورة، كما تم تربية هذا الجيل على خدمة النظام التركي حتى لو كان في دولة أخرى، وما نشهده من وجود الجيش الوطني السوري في ليبيا باعتراف الرئيس التركي هو دليل على أن هذا الجيل فاقدٌ للهوية، وما هو سوى مرتزق يتبع تركيا.
بالنسبة للإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا؛ ورغم الطابع الكردي الذي طُبعت به؛ لكنها استطاعت أن تُشرك جميع المكوّنات في صناعة القرار، تحت سقف فلسفة الأمة الديمقراطية التي احتوت الجميع بمختلف مشاربهم وتوجهاتهم، وأسست سبع إدارات ذاتية ومدنية، وفي ظلها تم بناء جيلٍ مشبعٍ بالحرية، رافضٍ لكل أشكال الاستبداد، جيل يدير نفسه بنفسه، وهذا ما تجده لدى كل المكوّنات الموجودة، سواءً أكانت كردية أو عربية أو سريانية أو غيرهم.
هذا الجيلُ حافظ على تماسكه حتى حين الاجتياح التركي لشرق الفرات، وقد عوّل الكثيرون على انحلال قوات سوريا الديمقراطية بمجرد التحرك التركي تجاه شرق الفرات، لكن هذا لم يحدث، عوّل الكثيرون -بما فيهم النظام السوري-على انقلاب العرب الموجودين لدى الإدارة الذاتية على أخوتهم الكرد، لكن هذا أيضاً لم يحدث.
هذا الجيل لن يقبل أن يعود إلى حضن النظام السوري، ولن يقبل أن يعود إلى ما قبل العام 2011، وهذا ما يجب أن يضعه النظام السوري بالاعتبار، فالقضية في شرق الفرات، ليست قضية قادة، بل قضية شعب، وجيل صاعد يرفض العودة إلى الوراء.
في سوريا ثلاثةُ أجيال مختلفة الإيديولوجيا والتوجه، فالبلد لم يعد مقسوماً جغرافياً فقط، بل جيوفكرياً أيضاً، والسؤال، ما الهدف من هذا المقال، هل هو لترسيخ التفكك الاجتماعي، وزرع الفتنة، أم لتلافي هذا المرض الاجتماعي؟ في أوروبا مرت الشعوب بنفس التجارب تقريباً، وقاموا بارتكاب المجازر بحق بعضهم البعض، سواءً دينياً أو طائفياً أو عرقياً، لكنها استطاعت أن تخرج من هذه الأزمة؛ كيف تم ذلك؟ هناك مئات المقالات والدراسات التي جاوبت على هذا السؤال.
ما قلناه هو حقيقة، وليس فضحاً لطرف سياسي أو عسكري على حساب آخر، إن الندب والبكاء على هذا الوضع هو الأجدى من اتهام المقال بتأجيج الصراع بين الطوائف والأعراق في سوريا، الأمر بالغ الخطورة؛ ويحتاج منا إلى تأملٍ عميق، وإيجاد حلول، لأن الأزمة السورية لن تنتهي طالما أن البنية الاجتماعية مفككة؛ ومؤتمرة بأوامر خارجية، والهدف الوحيد هو تحقيق مآرب كل الدول إلا سوريا.
المصدر: الحوار المتمدن.