رياض درار – في النظرية السياسية للإسلام
1ـ الإسلام يدعو إلى إنسانية شاملة، لكنه ليس مشروع دولة كونية، بل هو مشروع ديمقراطيات تتعدد بتعدد المجتمعات، وتشترك في فضاء الحرية، وتعمل على اختراق الحضارات للتكامل بينها وللتواصل والتعارف والتثاقف .
وحين أدعو إلى إقامة بناء وطني يقوم على عقد اجتماعي تتلاقى فيه العلمانية مع الإسلام، إنما أعني بذلك تشكيل مرجعية مشتركة للجميع على أرضية المواطنة المشتركة التي تخدم الحرية الفردية، وتقيم المساواة والعدالة الاجتماعية، وتحترم التعدد الديني، وتؤسس التضامن الوطني، عكس ما تكون عليه المجتمعات التقليدية التي تقوم على القهر والإذعان، وتتصف بأنها مجتمعات عصائب وطوائف وعشائر، لا ديمقراطية فيها، لأن السلطة فيها مطلقة والنخب الحاكمة فيها تتماهى مع الدولة وتنشد الخلود لقادتها، ولسان حالها يردد إنه “ثوب ألبسنيه الله” .. وحاشى لاحتكار الحكم أن يكون من عند الله.
2ـ الديمقراطية من مستلزمات العلمانية، والعلمانية تلتقي مع الإسلام من هذا الجانب،
من تعريفات العلمانية : أن العلماني غير كهنوتي وغير مقدس، وفي الاسلام لاكهنوت
ولاقدسية إلا لله -المطلق- وكل أمر غيره نسبي لاقدسية له، وإنما هو شأن علماني، أي دنيوي، والرسول الكريم أشار إلى هذا بقوله /أنتم أعلم بشؤون دنياكم /وهذه اشارة إلى معنى آخر للعلمانية، وهو المادية، بمعنى أنهامجرد قطاع من قطاعات الحياة يشير إلى الاعتقادات والممارسات التي تقوم على العقل. والاسلام بدوره استند إلى العقل في اعتماد الأحكام وما يمس حياة الناس، يقول ابن رشد في فصل المقال /وإذا تقرر أن الشرع قد أوجب النظر بالعقل في الموجودات واعتبارها، وكان الاعتبار ليس شيئاً أكثر من استنباط المجهول من المعلوم واستخراجه منه، وهذا هو القياس، فواجب أن نجعل نظرنا في الموجودات بالقياس العقلي/ واستند إلى العقل في إدارة الحياة الدنيا، وعليه يكون العلماني هو الإنسان المشغول بأمور المعاش في الحياة الدنيا، ويقابله الكاهن المنقطع في المؤسسة الدينية، أو الشيخ المرتبط بتحقيق المسائل الدينية، إذ الشيخ والكاهن لاسلطة لهما إلا سلطة التوجيه والتذكير /فذكر إنما أنت مذكر . لست عليهم بمسيطر . إلا من تولى وكفر . فيعذبه الله العذاب الأكبر / سورة الغاشية….
بهذا المعنى تكون العلمانية رؤية إجرائية للواقع لا تتعامل مع أبعاده الكلية والنهائية كمعرفة، ولا تتسم بالشمول، وتلتزم الصمت تجاه مجالات الحياة الكبرى الأخرى (المطلقات _والكليات الأخلاقية والدينية – والماورائيات ) ولذلك لا تتفرع عنها منظومات معرفية أو أخلاقية، بل ترى الإنسان يعيش رقعة حياته العامة وحسب، وتترك له حيزه الذي يتحرك فيه، وفي هذا لا تتعارض مع الإيمان الديني.
3ـ والدولة في النظام العلماني تقوم على الحرية لجميع أبنائها، ولاتتدخل في معتقداتهم، بل تحمي الجميع، ولا تتبنى ديناً تفرضه أو تلزم به أحداً.
والإسلام يمتلك شريعة تمثل ثروة قانونية شاملة لمكونات الحياة، ومن ثمة يمكن أن ينبثق عنه نظام يمكن أن يحل محل الأنظمة الحاكمة.. ويتجاوزها باستيعاب الآخر وفق ما جاء في دستور المدينة الذي أكد على المواطنة وعلى المساواة .
إن أنظمة قامت باسم الإسلام فرضت رؤية أصحابها ..وعمل علماء السلطة وفقهاؤها على ربطه بمصالح السياسيين، خلافاً لروح الإسلام ودعوته، وبعيداً عن تطبيق الرسول في بداية الدعوة التي قامت عليها حكومة المدينة المنورة .
فالصحيفة التي جعلها الرسول بينه وبين سكان يثرب بمختلف انتماءاتهم،كانت أول دستور أعلن أن الدولة تقوم على مبدأ المصالح المشتركة بين الناس، ولا تعتمد مرجعية المشايخ والكهان، وهي احتوت على مبدأ دستوري يدور حول حقوق المواطنة ويؤكدها، وحول حقوق الإنسان، وحرية التدين، وقامت على معيار الكفاءة لا الولاء.
والصحيفة التي تأسست عليها دولة المدينة كانت إعلاناً دستورياً يتفق مع التوجه العلماني الأصيل للإسلام (هذا كتاب من محمد النبي رسول الله بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب، ومن اتبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، إنهم أمة واحدة من دون الناس، وإن من اتبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين، ولا متناصر عليهم ….)
لقد كانت الصحيفة دستوراً ملزماً لأهل المدينة، من المسلمين والأربع عشرة قبيلة وثنية ومسيحية ويهودية، أكدت نقطتين رئيستين تجمعهما العبارة الشهيرة اليوم (الدين لله والوطن للجميع ). وقد جعلت كل الفئات المختلفة دينياً وحدة وطنية سياسية متعايشة، حيث الجميع أمة واحدة من دون الناس، يجمعهم وطن واحد هو يثرب، يتساوون في الحقوق أمام الحكومة بصرف النظر عن معتقداتهم الدينية، ويتضامنون في الدفاع عنه إذا تعرض لأي اعتداء خارجي .
4ـ بهذه الروحية / روحية الصحيفة / يمكن التقارب مع الرؤية العلمانية التي تقوم على فصل الدين عن الدولة، حيث أن الدولة ضرورة، ومنشأ ضرورتها النظام والأمن والإعمار، لأن عدمها جور مطلق على حد قول الإمام علي /لابد للناس من أمير بر أو فاجر /.. بل قيل في مأثورات العرب / سلطان غشوم خير من فتنة تدوم /.
وعلينا أن نلاحظ أن رؤيتهم لوجود أمير فاجر أوغشوم يتعارض مع الأمان الاجتماعي الذي هو من وظيفة الدولة، وهو الذي ينشده الإسلام لحامليه، لكنهم قالوا ذلك وفق وعي اجتماعي لا وفق فقه إسلامي، والوعي الاجتماعي يتغير تبعاً لتغير وعي الأفراد لأدوارهم ومواقعهم وحقوقهم وواجباتهم، حيث تتغير المفاهيم والوظائف، وبذلك يتغير شكل الدولة أداءاً وأدواراً ومصدر شرعية وآليات تطبيق، هذا التغير هو مصدر عدم تنميط الدولة بكونها إسلامية أو ليبرالية أو اشتراكية بشكل مطلق. إن تنميط الدولة يصادر حق المشاركين فيها من التعبير عن انتماءاتهم أو رؤاهم أو معتقداتهم، ويلغي التنوع الذي هو من سمة الإنسان، ومصدر حيوية العالم.
وإن الاعتراف بالتعدد والتنوع البشري سمة أساسية في الإسلام لا تقوم دولة بدونه، ولا تبنى إلا على أساس الاعتراف به وبوجوده.
5ـ هذا، وقد لحظ الإسلام مدى التنوع البشري، ودعا إلى احترامه وجعله مصدر حيوية للعالم / ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا /سورةالحجرات …ومفهوم التعارف غاية في ذاته، وهو نابع من التنوع / ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة /سورةالمائدة
لذلك حين يدعى إلى الفصل بين الدولة والدين فإن في ذلك حماية من تدخل الدولة وآلياتها في الدين، وحماية للدين ذي الأصول الثابتة من الدولة كمتغير ..
الدعوة العلمانية هي لصيانة المتغير من الثابت، ولصيانة الثابت من تعقيدات المتغير .
بهذا المنظور يمكن أن نرى أن تطور النهضة الإنسانية قاد إلى ثقافة تستمد مرجعيتها من العالم المحيط وضرورات التعايش معه وفيه، هذه الضرورات أرست مفاهيم جديدة وأدت إلى تحديث المجتمع، وتحديث المجتمع قاد إلى الفصل بين المؤسسة الدينية والمؤسسة السياسية، وهو ما أدى إلى إعادة تنظيم المجتمع على أسس الحرية والمساواة والعدالة والعقلانية والحقوق المدنية، وهي عملية لا تتوقف على جيل معين، بل هي في صلب المستقبل الذي لا يتوقف، وتجعل الإنسان من دون النظر إلى عرقه وجنسه أو دينه أو لونه نقطة ارتكاز في المجتمع، وتقدم له الضمانات القانونية اللازمة لممارسة تلك الحقوق واستقلاليته.
6ـ العلمانية لم تكن خياراً ايديولوجياً، بل واقعاً تاريخياً وموضوعيا، وهي حركة منفتحة أبداً على التحول والصيرورة بلا نهائيات ولاغائيات، وتؤدي إلى الاستقلال النسبي للمجتمع الديني، والمساواة الكاملة للمواطنين أمام القانون. إنها ليست مجرد فصل الدين عن الدولة، بل صارت رؤية تحمل ملامح جوهرية لإنسانية الانسان، وتعبر عن طموحه إلى السيطرة على المعوقات التي تقف في طريق تقدمه وسعادته.
من هنا أعتقد أنها ليست بصدد معاداة الدين، وإنما هي وسيلة للتجديد الديني نفسه بما يتلاءم ومستجدات الحياة.ولعلها تكون من أساسيات الإصلاح الديني المرتجى الذي يبعدنا عن التطرف .
نحن هنا لانأتي بجديد خارج الإسلام، بل هو من صلب سماحة الإسلام، إننا فقط نحتاج إلى تجديد فكري ديني، وفتح الأفق أمام الديمقراطية، ونبذ الوصاية على الشعب، وهذا يدفع كل مستلهم للحرية إلى أن يساهم بدوره في استبعاد الأحكام الفقهية القائمة على الأوامر والنواهي التي تضع العقبات في طريق تطور الانسان بإيقافه على حدود المدينة المنورة والصحراء العربية مكاناً وعلى وجود الصحابة زماناً، وكأن الدنيا توقفت .
إننا نعول على إعادة النظر في معنى النص الديني وعلاقته بالناس، وعلى تطوير الثقافة، والتكيف مع العالم، وإعادة الصلة بالمكتسبات التي صنعتها الشعوب، وما حققته من نهضة تقوم على تأمين كرامة الانسان وحريته.
7ـ هناك نظرة أكثر جذرية للعلمانية تقوم على رؤية جديدة لا تقتضي الفصل بين الدين والدولة فحسب وإنما هي تطالب بالفصل بين الدولة والمجتمع المدني، حيث الدولة الحديثة تتكفل بالشأن العام وبالمصالح العامة، بينما المجتمع يستطيع أفراده نشدان مصالحهم الخاصة بملء الحرية، حيث يتكون مجتمع مدني تتبارى فيه القوى التي تتشكل باحثة عن حقوق المواطنة في الدولة التي تستجيب عبر تحقيق المصالح في دائرتها العامة.
ويكننا العودة لتوضيح هذه النظرة إلى كتاب جورج طرايشي الذي يلخص لنا رؤية (موريس باربييه في كتابه ـ العلمانية ـ إصدار باريس 1995) ..
إن محور الكتاب يقوم على أن ( مفهوم حقوق الإنسان لا مكان له فعلياً في غياب المجتمع المدني، وكذلك حقوق المواطنة، وأن الانفصال بين الدولة والمجتمع المدني يشكل شرطا أساسياً للعلمانية، التي هي بدورها انفصال بين الدولة والدين، ومن ثم فإن الانفصال بين الدولة والمجتمع هو الشرط الضروري للحرية الدينية ).ص 211
(هرطقات ـ جورج طرابيشي ـ دار الساقي ـ ط/3)
8 ـ في المصدر السابق يؤكد الكاتب ( أن الدولة الحديثة تقوم بذاتها ولذاتها بدون أن تكون بحاجة إلى الدين وبدون أن تضعه في خدمتها، إذن فهي بالضرورة علمانية. والدين بذاته حر في الدولة العلمانية وله حياة قائمة بذاتها، وله ملء الحق في ألا تتدخل الدولة في شؤونه. والدولة التي هي مكلفة بالسهر على المصلحة العامة من واجبها أن تسهر على ممارسة المجتمع شتى الحريات وتكفل الحرية الدينية. والعلمانية بما أنها مسألة سياسية في جوهرها لا مسألة دينية، فمعنى ذلك أنها مسألة تابعة للدولة لا للدين، حيث الدين عنصر من عناصر المجتمع المدني ) .ص/211
9ـــ المشروع العلماني اليوم هو السعي إلى تجديد أمر الدين عبر استيعاب الحداثة،
إنّ كثيراً من المؤمنين ذوو تصرّف علمانيِّ الطابع، إذ يكنّون احتراماً كبيراً للاختلاف الدينيّ أو المذهبيّ أو السياسيّ. بينما كثيرٌ من العلمانيّين يمارسون تعصّباً أعمى تجاهَ الاختلاف في الرأي، أو العاداتِ، أو الممارسات الدينيّة، وهذا أساء إلى العلمانيّة لاختزاله إيّاها بالإلحاد، وذلك في مجتمعٍ مسلمٍ له طقوسه وأخلاقيّاته المحافظة. كما أعطت ممارساتُ الحكومات “العلمانيّة” في المجتمعاتِ الإسلاميّة صورة سلبيّة عن الجذر السياسيِّ للعلمانيّة، وهو جذر يمكن اختصارُه بحياد الدولة الإيجابيِّ تجاه جميع أبنائها، أي الوقوف على مسافةٍ واحدةٍ من الجميع: لا تَفرض عليهم عقيدةً، ولا تسمهم بغير طابع الانتماء الوطنيِّ الموحّد على أرضيّةِ المساواة واحترام الرأي الآخر.
10ــــ إنّ الدعوة إلى التجديد الدينيّ تهدف إلى الخروج من المأزق الذي جعل البلادَ الإسلاميّة خارج التاريخ. وهذا يتطلّب إصلاحَ الفكر، وتطوير الثقافة، وبناءِ التراكم المعرفيِّ، والتكيّفَ مع عالمٍ مضطرب. وبعد ذلك تنبغي صياغةٌ تدريجيّةٌ لمنظومةٍ فكريّةٍ ترتاح إليها الأغلبيّةُ الكبرى من أطرافِ المجتمع المتعدّدة، أدياناً وقوميّات. وهذه الصيغة يجب ألّا تنحوَ إلى تقديم الإسلام كهويّةٍ قوميّة أحاديّة الجانب. فلكلِّ مجتمعٍ هويّة، والإسلام عملَ على دعم هويّة كلِّ مجتمعٍ دخله وساهم في صنع حضارته، ولم يسعَ إلى جمع الأمم في هويّةٍ قوميّةٍ واحدةٍ، فالحقّ أنّ الهويّةَ البشريّة هويّة مركّبة فإلى جانب الدين هناك عواملُ أخرى، اجتماعيّة ومناطقيّة ومهنيّة واقتصاديّة وسياسيّة، ولا يمكن أن تُبنى هويّةٌ اجتماعيّةٌ على العامل الدينيّ وحده، وإلّا أُلغيَ التعدّدُ والتفرّدُ والتنوّعُ، وكلُّها من صفاتِ الفطرة وغايات الخلق، كما في قوله تعالى: “ولو شاء اللهُ لجعلكم أمّةً واحدة”.
ممّا سبق نرى أنّ التجديد الدينيّ الذي من شأنه أن يطول الدينَ في العمق، من حيث هو علاقةٌ بين الإنسان وربّه، وطريقةٌ روحيّةٌ في فهم العالم، يستوجب الدعوة إلى العَلمانيّة. والهدف من ذلك هنا ليس الحفاظَ على السياسة من تدخّل الدين (وهو مطلبُ اللادينيّين بنسبةٍ أكبرَ بكثيرٍ من مطلب الدينيّين)، وإنما لحفظ الدين وحفظِ جوهره ونقائه من الانحرافاتِ التي يفرضها العملُ السياسيُّ على مبادئ هذا الدين. ومن شأن علمانيّةٍ تمتثل إلى مقولة “حياد الدولة الإيجابيّ” تجاه معتقداتِ أبنائها أن تفسحَ المجال لنموِّ تجدّدٍ دينيٍّ حقّ: تجدّدٍ ينأى بالدين عن محاولات التطويع القسريّةِ لمفردات السياسة، ومحاولات ليِّ عنقه لاختزاله بنمط حكمٍ يليق بهذا المجتمع أو ذاك، تجدّدٍ يُطْلق الآفاق الرحبة للدين باعتباره شأناً أخلاقيّاً أولاً، ومن ثم معرفيّاً، تنتج عنه رؤًى اجتماعيّةٌ خاصّةٌ بمريديها كمكوّنٍ إضافيٍّ في مجتمعٍ متنوّع.