خورشيد دلي: تركيا .. السياسة تهتز أمام المتغيرات
(السلام- DeFacto ) .. يصعب على أي متابع للسياسة التركية هذه الأيام، فهم هذه السياسة، وحقيقة أهدافها، وكيفية تحقيق هذه الأهداف. كيفما نظرت ستجد ما يشبه الاضطراب، اضطراب يحمل الخوف من القادم والتهديد بالقوة معاً، فالأشياء تحمل عكسها، وهو ما يثير أسئلة كثيرة عن الأسباب، عن الديناميات الجديدة التي تجتاح المنطقة على وقع الضربات العسكرية الإسرائيلية في غزة ولبنان وسوريا وإيران، وسط حديث عن تغيير وجه الشرق الأوسط، تزامناً مع الفوز الكبير لدونالد ترامب بالانتخابات الرئاسية الأميركية، ومياه تجري على جبهة العلاقات التركية – الروسية، ستؤثر على التفاهمات التي نشأت بين الجانبين خلال السنوات الماضية، إذ أن التعاون المرجح بين ترامب ونظيره الروسي، فلاديمير بوتين، في المرحلة المقبلة، سيغير الكثير من قواعد هذه التفاهمات، كل ذلك وسط تصاعد الانقسام في الداخل التركي، وسط مؤشرات اقتصادية وسياسية وهوياتية توحي بأن لحظة الانفجار لم تعد بعيدة.
المستجد الإسرائيلي
مع توسع الحرب من غزة إلى لبنان، وتصاعد الضربات الإسرائيلية في سوريا، والضربات المتبادلة بين إسرائيل وإيران، واحتمال تحولها إلى مواجهة كبرى بين الجانبين، سوّق أردوغان مبكراً لمقولة إن الخطر يداهم تركيا، انطلاقاً من أن المتغيرات الجارية ستطال أراضيها، وقد كان لافتاً قبل فترة إشارته إلى أن إسرائيل قد تحتل دمشق، فيما حفلت الصحافة التركية بربط هذا الحديث بإمكانية ولادة دولة كردية في المنطقة، والحديث عن تحالف إسرائيلي كردي لهذه الغاية، وسط غياب أي دليل أو مؤشر لذلك، سوى تصريحات، من النوع التي أدلى بها مؤخراً، وزير الخارجية الإسرائيلي الجديد، جدعون ساعر، عندما تحدث عن توجه إسرائيلي لدعم الأقليات في المنطقة، وهي تصريحات لا يمكن البناء عليها في نسج مثل هذه الخلاصة، خاصة أنها ربما تدخل في إطار المناكفة بين مسؤولي الجانبين الإسرائيلي والتركي، ولطالما هاجمت تركيا إسرائيل إعلامياً وأبدت دعمها لحركة حماس.
في الواقع، إثارة الجانب التركي لقضية ولادة دولة كردية في المنطقة وربطها بالإرهاب وإسرائيل وحتى الولايات المتحدة الأميركية، قد لا يكون سوى من باب ممارسة المزيد من الضغط على الكرد، وتشوية قضيتهم المحقة عبر تقديم صورة مشوهة لهذه القضية عربياً وإسلامياً، فيما الحقيقة هي أن تركيا تخشى في العمق من أن تؤدي الحرب التي تخوضها إسرائيل على أكثر من جبهة إلى تغيير القواعد التي أرستها تركيا وإيران بخصوص القضية الكردية، والدول التي يتواجد الكرد فيها، إذ ثمة قناعة تركية عميقة بأن ما جرى ويجري، سيؤدي إلى إضعاف إيران ودورها بهذا الخصوص، وهو ما سيؤدي إلى تعاظم الحركات الكردية، لاسيما تلك المرتبطة بمنظومة حزب العمال الكردستاني، وهو ما يشكل قلقاً كبيراً لتركيا.
قنبلة باهجلي
يعرف الجميع في تركيا وخارجها أن زعيم الحركة القومية التركية، دولت باهجلي، هو من أشد المعارضين للقضية الكردية، حتى أنه هاجم الجهود التي طرحها حزب العدالة والتنمية بهذا الخصوص سابقاً، وطالب مراراً بحل حزب الشعوب الديمقراطية المدافع عن حقوق الكرد في تركيا، وانطلاقاً من هذه المعرفة شكلت مصافحته لنواب حزب المساواة والديمقراطية للشعوب في البرلمان، ودعوته الزعيم الكردي، عبدالله أوجلان، للقدوم إلى البرلمان، لإعلان حل حزب العمال الكردستاني، قنبلة فاجأت الجميع، وأثارت أسئلة وتساؤلات في كل الاتجاهات، عن حقيقة أهداف باهجلي من هذا السلوك والتصريحات؟ وإذا ما كان ذلك بالتنسيق مع حليفه أردوغان؟
ومع أن أوجلان ردّ سريعاً على دعوة باهجلي، بالقول إنه يمتلك القوة لتحويل الصراع والعنف إلى أرضية قانونية وسياسية، إلا أن جملة الممارسات التركية التي تزامنت مع تفجير أنقرة، رسخت القناعة بعدم وجود مبادرة تركية حقيقية لحل القضية الكردية سلمياً، فعزل عدد من رؤساء البلديات الكرد، وشن هجمات مدمرة للبنية التحتية في المناطق الواقعة تحت سيطرة الإدارة الذاتية في سوريا، وتشديد عقوبات العزل على أوجلان، كانت كفيلة بأن ثمة أهداف تركية أخرى غير الحل السياسي للقضية الكردية، وأن قنبلة باهجلي ليست أكثر من خطوة وقائية لتدارك التحديات التي قد تنشأ عن التطورات الجارية في المنطقة وانعكاساتها على القضية الكردية في تركيا والمنطقة، لكن بغض النظر عن النوايا التركية، فإن التطورات الجارية تضع تركيا أمام خيارين لا أكثر، إما الجنوح نحو حل سياسي للقضية الكردية من خلال الاعتراف بها، وإيجاد حل ديمقراطي يقر بالهوية القومية للكرد دستورياً، أو التوجه نحو المزيد من التصعيد في إطار السياسة التقليدية التي فشلت في إيجاد حل لهذه القضية رغم كل العنف الذي مورس.
في انتظار ترامب 2
سارع أردوغان إلى تهنئة ترامب بعودته إلى البيت الأبيض، مجدداً طلبه للإدارة الأميركية بوقف دعمها لقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وملوحاً من جديد بعملية عسكرية جديدة في شمال وشرق سوريا، حسابات أردوغان هذه ربما تتطلق من علاقته القوية بترامب خلال عهده الأول في البيت الأبيض، إلا أن القناعة هذه تقفز فوق حقيقة واقع تراكم الخلافات بين أنقرة وواشنطن في كل الاتجاهات، وهي قناعة رغبوية أكثر من أنها واقعية تنبع من واقع التعارض في الاستراتيجيات رغم عضوية الجانبين في حلف الأطلسي ( النيتو )، فتركيا الأطلسية تسعى إلى عضوية بريكس العدو الاقتصادي للدولار الأميركي، وتركيا الداعية إلى سحب أميركا قواتها من سوريا تتجاهل الأهداف الاستراتيجية الأميركية من وجود هذه القوات، والتي باتت تتجاوز محاربة “داعش” إلى توازنات لها علاقة بنفوذ إيران، والسعي إلى ترتيب وضع منطقة الشرق الأوسط في ضوء حسابات مرحلة ما بعد حرب غزة ولبنان، كما أن الأولويات الأميركية تتجاوز حسابات أردوغان إلى الصراع البنيوي مع الصين، وإيجاد تسوية للأزمة الأوكرانية، وعليه بدت الوثبة التركية تجاه “ترامب 2” متجاهلة لهذه المتغيرات، وما تفرضه من تحديات على الإدارة الأميركية المقبلة، وسط مؤشرات بأن أعضاء الفريق الذين رشحهم ترامب لتولي مناصب في إدارته الجديدة تخالف الآمال التركية، وتوحي بأن التوصل إلى تفاهمات لن يكون سهلاً كما يريد أردوغان.
والثابت أنه رغم براغماتية كل من أردوغان وترامب، والطابع الشعبوي لكل منهما، وحجم المصالح الشخصية بينهما، إلا أن العلاقات بين الدولتين أكبر من هذه الحسابات، وتبدو العلاقات بينهما أمام مرحلة جديدة من الصعود والهبوط في ظل تعدد الملفات الخلافية، وتباين المصالح الاستراتيجية بينهما، خاصة إذا كان “ترامب 2” مختلفاً عن “ترامب 1” في ظل تراكم خبرته السياسية، ونضجه بمصالح الدولة.
خريف العلاقات التركية – الروسية
تبدو العلاقات التركية – الروسية وكأنها تقف عند مفترق طرق، وقد كشف اجتماع أستانا 22 عن هذه الحقيقة، عندما أعلنت موسكو عن أمرين، الأول هو الرفض القاطع لأي عملية عسكرية تركية جديدة في سوريا، والثاني إعلان الاستعداد للتعاون مع واشنطن بخصوص الأزمة السورية.
وقد سبق الموقفين تصريحات كشفت عن حقيقة إمكانية الافتراق الروسي – التركي وهشاشة التفاهمات التي تكونت بين الجانبين خلال السنوات الماضية، إذ كان لافتاً رد وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، على مناشدة أردوغان لبوتين عقب عودته من قمة بريكس بالعمل على عقد قمة بينه ونظيره السوري، بشار الأسد، إذ أعلن لافروف أن المفاوضات بين أنقرة ودمشق تجمدت، بسبب رفض أنقرة الاستجابة لمطلب دمشق بتعهد الانسحاب من الأراضي السورية، ليرد عليه لاحقاً، نظيره التركي، حقي فيدان، بأن الأسد غير جاهز للقاء أردوغان، وأن نظامه غير مستعد للتفاهم مع المعارضة السورية، تصريحات فيدان سرعان ما قوبلت بتصريحات روسية نوعية، عندما أعلن لافروف أن الأسلحة التركية المقدمة للجيش الأوكراني تقتل العسكريين والمدنيين الروس، وأن التعاون بين أنقرة وكييف أمر مثير للاستغراب، وعكس رغبة أنقرة في التوسط بين الجانبين الروسي والأوكراني، فيما يأتي الرد الروسي غير المباشر على السلوك التركي ها بالعودة إلى سياسة قصف مواقع المعارضة المرتبطة بتركيا في شمال غرب سوريا.
من الواضح، أن المواقف بين أنقرة وموسكو تتباعد، وأكثر ما يزعج أردوغان في هذا المجال، هو الإحساس بأن الأسد سيواصل رفض اللقاء به، والأكثر سوءاً له هو القناعة بأن الأسد ربما بات يجد أن مسار مستقبله في مكان غير التطبيع مع تركيا التي ترى أن هذا التطبيع هو الطريق الوحيد لقطع الطريق أمام مشروع “قسد” في سوريا.
خلاصة
أردوغان في انتظار قدوم ترامب للبيت الأبيض يجد نفسه أمام تحديات صعبة، وخيارات أصعب، و وضعه يشبه قبطان سفينة تدخلها المياه وهي تلاطم أمواج البحر، وأكثر ما يخشاه هو أن يؤدي قدوم ترامب للسلطة إلى علاقة جديدة بين موسكو وواشنطن، تنزع عنه الأدوار التي أراد القيام بها في أوكرانيا على أمل تحقيق المزيد من النفوذ والدور، وأن تحاصر هذه العلاقة نفوذه وآماله في سوريا بعد أن راهن طويلاً على الخلافات الأميركية الروسية لتحقيق آماله في ساحتها، وهو ما قد يمهّد لتطورات دراماتيكية في الداخل التركي الذي يئن في كل الاتجاهات.