أخبارمقالات

خورشيد دلي – بايدن وامتحان السياسة بين تركيا والكرد

مع فوز جو بايدن بالرئاسة الأميركية، ينظر الكرد وتركيا من زاويتين مختلفين لوصوله إلى سدّة البيت الأبيض، حيث ينظر الكرد بكثير من الارتياح المحفوف بالحذر، نظراً لتصريحات بايدن الإيجابية إزاء الكرد وحقوقهم القومية، وما تعرضوا له من اعتداءات على يد النظام التركي، فيما تنظر تركيا بكثير من الحذر، ولا سيما بعد وصف بايدن لأردوغان قبل أشهر بالحاكم المستبد، متعهداً بدعم المعارضة التركية لإسقاطه في الانتخابات، فضلاً عن مواقفه المؤيدة للكرد والأرمن واليونانيين، ولكن كل ما سبق، لا يمنع تركيا من الأمل بالحفاظ على علاقة جيدة مع الإدارة الأميركية المقبلة، انطلاقاً من أهمية موقع تركيا الجيوسياسي للاستراتيجية الأميركية، والعلاقات التاريخية التي تربط بين أنقرة وواشنطن.

يعرف الجميع أن علاقة جو بايدن بأردوغان مختلفة عن علاقة أردوغان بترامب، إذ أن دبلوماسية الهاتف بين الرجلين كانت كفيلةً بحلِّ أي مشكلة بينهما، تلك الدبلوماسية التي أعطى فيها ترامب الضوء الأخضر لأردوغان للبدء بعملية “نبع السلام” واحتلال المنطقة الممتدة من تل أبيض إلى سري كانيه (رأس العين) بعد سحب ترامب قواته منها، وهو ما وصفه بايدن بخيانة أميركا لقوات سوريا الديمقراطية، الشجعان الكرد والعرب الذين قاتلوا إلى جانب القوات الأميركية وألحقوا أكبر هزيمة بـ”داعش” بحسب وصفه، وليس أدلَّ على ارتياب نظام أردوغان من فوز بايدن، تأخّر أردوغان في تهئنته إلى درجة أن زعيم المعارضة التركية كمال كليجدار أوغلو، وكذلك مدحت سنجار وبروين بولدان، الرئيسان المشتركان لحزب الشعوب الديمقراطي، سبقوه في ذلك.

يُنسَب لجو بايدن، أنه وعد الزعيم الكردي مسعود البارزاني بدعم إقامة دولة كردية مستقلة، حيث زار بايدن كردستان العراق مراراً، ومن هناك أكد أن للكرد أصدقاءً غير الجبال أيضاً، في إشارة إلى دعمه لحقوقهم وتطلّعاتهم، والأمر نفسه ينطبق على كرد سوريا، وموقفه الإيجابي الداعم لقوات سوريا الديمقراطية، والتأكيد على ديمومة التحالف معهم في الحرب ضد داعش، فيما على المقلب الآخر، يوحي مشهد العلاقات الأميركية-التركية بالمزيد من المشكلات وتفاقمها، ولا سيما في ظل ذهاب أردوغان بعيداً في علاقاته مع موسكو وطهران، وإتمامه صفقة المنظومة الصاروخية الروسية إس -400 رغم كل الاعتراضات الأميركية، فضلاً عن تصعيده العسكري في شرق المتوسط مع اليونان وقبرص وعموم أوروبا، وانتهاجه سياسة المغامرات والاعتداءات العسكرية في شمال شرقي سوريا، وإقليم كردستان العراق، وليبيا، والقوقاز…

دون أن تُقابَل تصرفاته بردود أميركية، إذ اكتفت إدارة ترامب بتوجيه انتقادات للممارسات التركية هذه، والتي كانت تشكّل تجاوزاً للخطوط الحمر الأميركية، وقد أرجع مراقبون السلوك الأميركي هذا إلى الحصانة التي وفَّرها ترامب لأردوغان على أساس العلاقة الشخصية بينهما، خلافاً للاستراتيجية الأميركية التي تعتمدها المؤسسات الأميركية العريقة، وعلى رأسها الكونغرس والخارجية والبنتاغون والأمن القومي، وبسبب هذه السياسة جمَّد ترامب عشرات مشاريع العقوبات التي قُدِّمت للكونغرس الأميركي ضد تركيا، بل وصل الأمر بترامب إلى التدخّل في القضاء الأميركي لتسوية قضية “بنك الشعب/ Halk Bankası” التركي المتورّط في خرق العقوبات الأميركية المفروضة على إيران، وعليه بدا مشهد العلاقات التركية-الأميركية خلال فترة حكم ترامب على شكل تضارب في الاستراتيجيات والمصالح مقابل علاقة خاصة تربط ترامب وأردوغان. وهو ما يطرح السؤال التالي: كيف سيكون مشهد هذه العلاقة في ظل إدارة بايدن؟ ثمة من يجزم بأن بايدن سيضع نهاية لدبلوماسية الهاتف التي كانت سائدة بين القصر الأبيض التركي والبيت الأبيض الأميركي في عهد ترامب، وأنه سيضع حدّاً لنهاية مغامرات أردوغان، خاصةً وأن نهجه هذا أصبح مصدراً للفوضى والإرهاب والعنف في المنطقة والعالم، ولعلَّ هذا ما يفسّر حديث بايدن قبل فترة عن حدود ذهاب السياسة التركية في الملفات الإقليمية، وكأنه كان يؤكد أن الطريق الوحيدة لحلِّ الخلافات معها، يمرُّ عبر عودة تركيا إلى بيت الطاعة الأميركي، والانسجام مع سياساتها، وليس القيام بممارسات لإفشالها أو وضع عقبات أمامها. وعليه، ثمة من يرى بأنه ما لم يجري أردوغان مراجعةً لسياساته السابقة، فإن بايدن سيتبع سياسة حازمة تجاه نظامه، انطلاقا من الاستراتيجية الأميركية، والالتزام بالقانون الأميركي الذي يعطيه صلاحيات واسعة لاتخاذ عقوبات مؤلمة ضد الدول التي تنتهج سياسات تخدم أعداء أميركا في إطار قانون ماغنيتسكي، وهو ما يعني فتح الطريق أمام مشاريع العقوبات الموجودة على جدول أعمال الكونغرس، وإطلاق يد الدبلوماسية، وربما إعادة فتح ملفات أُغلِقت، ولا سيما ملف “بنك الشعب/Halk Bankası” التركي الذي تدور حوله الكثير من الشبهات والغموض، ووضع خطوط حمر لاعتداءات تركيا ضد كرد سوريا الذين أكد بايدن مراراً على حماية التحالف معهم. وعليه ثمة من يرى أن أردوغان الماهر في قراءة المتغيّرات، وانتهاج البراغماتية في اللحظات الحرجة، ونسج التحالفات والانقلاب عليها في الوقت نفسه، لن يغامر بالذهاب إلى مواجهة مع بايدن، ولا سيما في المرحلة الأولى من حكمه، إذ سيعمل حتى استلام بايدن مهامه رسمياً، في إرسال الرسائل الإيجابية له ولو من تحت الطاولة، كما أنه سيعمل على تغيير فريق التواصل مع الإدارة الأميركية، واستبداله بمقرّبين من الديمقراطيين، وفي هذا الإطار، ينظر كثيرون إلى استقالة أو إقالة وزير المالية التركي وصهر أردوغان، بَرات آلبيراك، خاصةً وأن حجج آلبيراك بالاستقالة لم تكن مقنعه، حيث كان الرجل يشكِّل مع جاريد كوشنر، صهر ترامب، القناة الأساسية للتواصل بين أردوغان وترامب. 

في الواقع، من الصعب توقع مآل العلاقة بين أردوغان وبايدن في المرحلة المقبلة، إذا ما علمنا أن سياسات الدول تقوم على المصالح والحسابات الاستراتيجية، لا على التصريحات التي تُطلَق بهذه المناسبة أو تلك، خاصةً وأن الكثير من التصريحات التي أطلقها بايدن في الفترة الأخيرة قد تكون في سياق الحملات الانتخابية حيث كان يرى في علاقة ترامب-أردوغان مادة انتخابية لفضح سياسات خصمه ترامب، وعليه ينبغي النظر دوماً إلى أهمية مكانة تركيا في الاستراتيجية الأميركية وطبيعة العلاقة بينهما. 

في المقابل، التحدي الكبير أمام الكرد يكمن في كيفية دفع إدارة بايدن إلى التعامل بإيجابية وفعالية مع التطلّعات الكردية في المنطقة، والتحدي هنا، يكمن في كيفية إنجاز الأحزاب الكردية في سوريا مفاوضات المصالحة الجارية، وتشكيل مرجعية موحدة لإدارة السياسات في الداخل والخارج، وكذلك في كيفية استفادة كرد تركيا وتحديداً حزب الشعوب الديمقراطي من وصول بايدن إلى البيت الأبيض لدفع أردوغان إلى انتهاج مسار سلمي لحلِّ القضية الكردية هناك. والتحدي الأكبر كردياً، يكمن في كيفية تحويل حزب العمال الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود البارازني الأجواء السلبية بينهما إلى تفاهمات تنعكس إيجاباً على الكرد وقضيتهم أو قضاياهم في عموم المنطقة. من دون شك، إنجاز هذه التحديات يشكِّل مهمة ملّحة للكرد أمام المتغيّر الجديد في البيت الأبيض، والمخاطر الإقليمية التي تهدد مستقبلهم، فهل تلتقط القوى والأحزاب الكردية اللحظة المناسبة للاستفادة من الفرصة المتاحة لوضع قضيتها على جدول السياسة العالمية؟ بانتظار ذلك فإن الأنظار تتجه إلى سياسة بايدن الخارجية: فهل سيقوم بترجمة تصريحاته وموافقه السابقة إزاء الكرد والنظام التركي على أرض الواقع أم أنه وجوده في سدّة البيت الأبيض قد يفرض عليه نهجاً مغايراً لهذه التصريحات والمواقف؟

عادةً، السياسة تنتصر للمصالح، لكن لا أحد ينكر أن لرجالاتها دور في تحديد بوصلتها، ورسالتها، تحقيقاً للقيم الأخلاقية التي تحملها هذه السياسة، وبما يليق ذلك بزعيم دولة عظمى، تكاد تقود العالم بلا منازع. 

المصدر: نورث برس.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى