ثورة اللغة الكردية ثورة الولادة والانبعاث
اختير 21 شباط من كل عام، يوماً للاحتفال باللغة الأُم، لتعزيز الوعي بالتنوع اللغوي والثقافي وتعدد اللغات، وتم اعتماد هذا اليوم يوماً عالمياً للغة الأُم من قبل منظمة اليونسكو، في 17 تشرين الثاني 1999م، وجاءت فكرة الاحتفاء باليوم العالمي للغة الأم بمبادرة من بنغلاديش، وبدأ الاحتفال به رسمياً في جميع أنحاء العالم عام 2000.
لماذا اختير 21 شباط
في عام 1947 تم تقسيم الهند إلى دولتين لكل منهما السيادة المستقلة (الهند وباكستان)، تشكلت حكومة باكستان، وكانت تتألف من مجموعات عرقية ولغوية متنوعة, وجغرافياً غير متصلة بإقليم بنغال الشرقي، الذي أُطلق عليه في عام 1956 باكستان الشرقية، والتي تضم سكان بنغاليون في المقام الأول.
وفَرضت الحكومة الباكستانية في عام 1948 اللغة الأردية اللغة الوطنية الوحيدة للبلاد، مما أثار احتجاجاً واسعاً ونزاعات طائفية للأغلبية المتحدثة باللغة البنغالية في بنغال الشرقية، وطالبت حركة اللغة البنغالية في بنغلادش الاعتراف باللغة البنغالية كلغة رسمية في الدولة كي يسمح بتداولها في الشؤون الحكومية والتعليم ووسائل الإعلام والعملة والطوابع.
وتحدىَ طلاب جامعة دكا، وغيرهم من النشطاء السياسيين ذلك القانون وتلك الحكومة ونظموا مسيرات للاحتجاج، في 21 شباط 1952، ووصلت الحركة الاحتجاجية إلى ذروتها عندما قتلت الشرطة مجموعة من الطلاب المتظاهرين في ذلك اليوم.
وبعد الكثير من الصراعات تراجعت الحكومة المركزية عن قرارها، ومنحت الصفة الرسمية إلى اللغة البنغالية عام 1956. وتكريماً لحركة اللغة اعتبرت اليونسكو، يوم 21 شباط، اليوم الدولي للغة الأم وعطلة رسمية. وهنا يمكننا القول إن الشعب البنغالي أصر على وجوده عبر إصراره التكلم بلغته الأم والحفاظ عليها. وأن نيل الحقوق بحاجة لنضال وكفاح.
أين تكمن أهمية لغة الأم
ووفقاً لمنظمة اليونسكو يوجد حوالي 7000 لغة حول العالم، 2500 منها مهددة بالانقراض وفق أطلس اللغات الذي نشرته منظمة اليونسكو عام 2010.
تُعد اللغة من أهم الوسائل الرئيسة للتواصل بين البشر على مر العصور منذ نشأة الخليقة، ويمكن تعريف لغة الأم بأنها الهوية الأساسية للمجتمعات، وفي معناه الضيق يمكن تعريف اللغة على أنها الثقافة، لأنها تعد مفتاح التواصل بين الشعوب، وعن طريقها تم الحفاظ على ثقافة الأمم والشعوب. وهنا يمكننا القول إن زوال اللغة يعني زوال الشعب، لذا فإن الدول والنظم المستعمرة ما أن أرادت القضاء على شعب معين باشرت بحجب لغته ومن ثم القضاء عليه، واندثرت شعوب عدّة بموجب هذه السياسية، وحاولت الدول المستعمرة اتباع هذه السياسة بحق الشعب الكردي الذي يعد من أقدم الشعوب في العالم، عبر مراحل تاريخية بدءاً من اتفاقية آماسيا 1516 وصولاً لاتفاقية لوزان 1923 وتجزئة كردستان بلاد الكرد إلى 4 أجزاء.
وتم تجزئة كردستان في التاريخ الحديث بموجب معاهدة لوزان في 24 تموز عام 1923، بين أربعة دول (العراق، وسوريا، وتركيا وإيران)، وعقب التجزئة بدأت حملات الإبادة بحق الكرد وحرمانهم من التكلم بلغتهم نظراً لأهمية اللغة في الحفاظ على الإرث الحضاري والثقافي والمجتمعي للشعب الكردي. حيث يقول القائد أوجلان في مرافعته الخامسة المعنونة بـ (الحضارة الديمقراطية)، في فصل الإطار الاصطلاحي والنظري حول اللغة: “اللغة بحد ذاتها تعني الإرث المجتمعي للذهنية والأخلاق والجماليات والعواطف والأفكار التي اكتسبها مجتمع ما. وهي وجود الهوية واللحظة الذي يدرك ويعبر عنه بالنسبة للمعنى والعاطفة والمجتمع الذي يعبر عن ذاته يدل على امتلاكه الحجة القوية للحياة. وذلك أن مستوى رقي اللغة هو مستوى تقدم الحياة”.
منان جعفر مدرس اللغة الكردية في قسم اللغة والأدب الكردي في جامعة روج آفا، أوضح “عقب تجزئة كردستان مورس بحق الكرد سياسة الصهر والإمحاء، ولم ينظر إليهم على أنهم شعب له لغة ووجود، بموجب المواثيق والعهود الدولية، والسبب الرئيس هو عدم وجود دولة باسم الكرد”.
وتأسست جامعة روج آفا، عام 2016، في مدينة قامشلو شمال وشرق سوريا، كإحدى ثمار ثورة 19 تموز، بإمكانيات متواضعة جداً على المستويين، الأكاديمي والإداري، والتي استطاعت بناء قاعدة وأرضية لمؤسسة تعليمية- علمية تعمل الآن، بعد رفدها بالإمكانيات، وتعمل على التواصل مع مؤسسات وشخصيات أكاديمية علمية- دولية.
اللغة الكردية في سوريا قبل ثورة 19 تموز
في سوريا وبعد الجلاء الفرنسي عام 1946، وتعاقبْ الأنظمة وصولاً لاستلام حزب البعث سدة الحكم، مورست سياسة القطب الواحد ضد عموم مكونات النسيج السوري، وفي مقدمتهم الشعب الكردي الذي يعد ثاني أكبر مكون ضمن سوريا، ففي البداية تم الاستيلاء على أرضه بموجب قانون الحزام العربي في الفترة الممتدة بين أعوام 1965 إلى 1976، بالإضافة إلى تغيير أسماء المدن والقرى من الكردية إلى العربية، ومُنِعَ تداول اللغة الكردية في المؤسسات الأمنية ومن ثم المؤسسات العامة، وفي عام 2004 عقب انتفاضة 12 آذار، اتّبعت حكومة دمشق سياسة عُرفت بسياسة تمكين اللغة العربية في المناطق الكردية، عبر إجبار شعب روج آفا على تعلم اللغة العربية، ومنع التحدث بلغته الأم، وحتى تم منع تسمية أطفالهم بأسماء كردية، وصولاً لفتح دورات ما تسمى بمحو الأمية للمسنّين في القرى والبلدات والنواحي وإجبار الأهالي على الانضمام إليها.
وتطرق منان إلى وضع الكرد واللغة الكردية في سوريا عقب اتفاقية لوزان، وصولاً إلى الانتداب الفرنسي ووصول حزب البعث إلى سدة الحكم، وقال: “أثناء الانتداب الفرنسي لسوريا، وكما هو معروف أن فرنسا إحدى أطراف اتفاقية سايكس بيكو، كانت تنظر إلى الكرد على أنهم لا يستحقون نيل استقلالهم، إلا أنها لم تكن تبيد اللغة الأم”.
منوهاً إلى أنه وعقب “وصول حزب البعث لسدة الحكم، سلك البعث سياسية شوفينية، فمنع اللغة الكردية والثقافة الكردية”.
جعفر تطرق إلى نضال الشعب الكردي ضد السياسة الشوفينية التي مورست بحقهم من قبل حزب البعث، وقال: “الشعب الكردي لم يقف مكتوف الأيدي بل ناضل من أجل لغته وثقافته، وصولاً إلى ثورة 19 تموز”.
ثورة اللغة
يؤكد القائد أوجلان أنه بقدر ما يرقى مجتمع ما بلغته الأم، يكون قد ارتقى بمستوى الحياة بالمثل، وبقدر ما يخسر مجتمع ما لغته ويدخل تحت حاكمية لغات أخرى، يكون مستعمراً ومعرضاً للصهر والإبادة بالمثل، ومن هذا المنطلق ركز الشعب الكردي في روج آفا وشمال وشرق سوريا وسوريا على لغتهم الأم إبان ثورة 19 تموز 2012.
عقب انطلاق ثورة 19 تموز، باشر المهتمون والمحبون للغة الكردية تدريس اللغة الكردية على شكل حلقات ضمن المدارس في العام الدراسي 2012/2013، وتطور الأمر فيما بعد ليتم اعتمادها لغة رسمية ضمن المدارس في العام الدراسي 2013/2014 في مقاطعات (الجزيرة، كوباني وعفرين) أي بعد تأسيس الإدارة الذاتية الديمقراطية، وتدريسها للطلبة الكرد، وتم إصدار مناهج للصف الأول والثاني باللغة الكردية في العام الدراسي 2014/2015، وفي العام الدراسي 2015/2016، تم تدريس المناهج من الصف الأول وحتى الصف السادس باللغة الكردية، والآن يدرس الطلبة الكرد بلغتهم الأم خلال جميع المراحل الدراسية، كما يدرس الطلبة العرب بلغتهم الأم العربية والطلبة السريانيين بلغتهم الأم السريانية.
داروين داري الرئيس المشترك لقسم الأدب والعلوم الاجتماعية في جامعة روج آفا، وهو أحد المهتمين باللغة الكردية، تعلم الكتابة والقراءة بلغته الأم (الكردية) منذ عام 1987، بشكل سري، أوضح: “ثورة روج آفا في بادئ الأمر كان لها ثلاث أعمدة رئيسة، ثورة اللغة والمرأة والثورة العسكرية، بتحرير المناطق تم البدء بالتعلم باللغة الأم، وهذا كان بمثابة حلم لنا”.
أكد داورين داري أن آلية تعليم اللغة الكردية ضمن روج آفا وشمال وشرق سوريا بدأت بشكل منظم عقب ثورة 19 تموز، حيث بدأ تعليم اللغة الكردية ضمن المدارس كحلقات، واعتماد اللغة الكردية لغة أساسية عقب إعلان الإدارة الذاتية في مقاطعات (الجزيرة وكوباني وعفرين) عام 2014، ومن ثم وضع المناهج وتحضير الكوادر، بالتزامن مع تعليم وتدريب كافة شرائح المجتمع على اللغة الكردية ضمن المنطقة. أعقبها افتتاح المعاهد لتدريب وتأهيل الكوادر التعليمية ضمن المدارس.
الصعوبات
ونوه داري إلى بعض الصعوبات التي واجهتهم وفي مقدمتها رفض بعض الأحزاب الكردية تدريس اللغة الأم اللغة الكردية ضمن المدارس، وعدم وجود مصادر خاصة لتعليم اللغة الكردية، والحصار الذي فرض على المنطقة ساهم في صعوبة الوصول إلى المصادر الخارجية والاستفادة من خبراتهم العلمية، وقال: “بذل المعلمون عملاً دؤوباً وجهوداً حثيثة في سبيل إعداد منهاج متكامل”.
ثورة الولادة والانبعاث
وصف داروين داري ثورة اللغة في روج آفا وشمال وشرق سوريا بثورة الولادة والانبعاث، وقال: “إن من أعظم المصاعب هي عملية الولادة إلا أنها تخلق حياة جديدة، وثورة اللغة الكردية في روج آفا أشبه بعملية الولادة، خلقت حياة جديدة، هذه الحياة هي كيفية الانضمام إلى المدارس بدءاً من المرحلة الابتدائية وصولاً للمرحلة الثانوية والجامعة التي تعد فاكهة هذه الثورة”.
وأشار داروين داري إلى أن العملية التعليمة باللغة الأم وبعد عشرة أعوام من النضال الدؤوب والمستمر وصلت إلى مرحلة دراسة الماجستير في اللغة والأدب الكردي ضمن الجامعات، ويطمحون الآن للبدء بمرحلة الدكتوراه.
ويؤكد داري أن ثورة 19 تموز حمت اللغة الكردية والشعب الكردي من الاندثار، وقال: “إن لم تدرس اللغة ضمن المدراس وبشكل أكاديمي فإنها مهددة بالاندثار”. وخاطب الرافضين لتدريس اللغة الكردية، بالقول: “في غضون السنوات العشر الفائتة خطونا خطوات كبيرة، وتمكنا من النهوض باللغة الكردية إلى مستوى عالٍ جداً، لو استمعنا إلى آرائكم لكنا تركنا لغتنا وبالتالي أنهينا وجودنا”.
المصدر: ANHA.