الهرولة نحو التطبيع.. الموقف التركي من دمشق بين الحاضر والماضي
انهارت العلاقات بين دولة الاحتلال التركي وحكومة دمشق بشكل كامل، في الأعوام الأخيرة على خلفية الأزمة السورية، لكن هذه العلاقات بدأت تعود بشكل دراماتيكي، بعد تحوّل كبير في موقف دولة الاحتلال.زار وزير خارجية دولة الاحتلال التركي، أحمد داوود أوغلو، في 9 آب 2011، العاصمة السورية دمشق، والتقى الرئيس السوري بشار الأسد، وتباحثا 6 ساعات، سعى فيها أوغلو إلى إقناع الأسد بتحقيق التغيير في سوريا على مقاسات تركية، لكن الدعوات التركية لم تلقَ استجابة سورية، ثم بدأت العلاقة التركية السورية تسير نحو الانهيار.
بعد الزيارة بيوم واحد، أي في 10 آب، أدلى أردوغان الذي كان يشغل منصب رئيس الحكومة حينها، بتصريح؛ أمهل فيه الأسد 15 يوماً لإقامة خطوات الإصلاح، ثم وجّه داوود أوغلو “الكلمات الأخيرة” للحكومة في دمشق بإيقاف عمليات القتل.
وخرج الرئيس السوري للردّ على تتالي التصريحات التركية، ويقول في 22 آب 2011، موجّهاً كلامه لأردوغان “إذا كانت تركيا تريد أداء دور المرشد فهذا مرفوض”.
كان واضحاً حينها، أن الأمور تذهب نحو الأسوأ، إذ خرج أردوغان في 9 أيلول 2011، ليقول للأسد إن “الذين يبنون حكمهم على الدم سيهذبون بالدم”.
وبعد ذلك بنحو شهر، وتحديداً في 2 تشرين الأول، شهدت مدينة اسطنبول تشكيل المجلس الوطني السوري المعارض، لتتحوّل تركيا إلى معقل لخصوم الرئيس السوري بشار الأسد.
وبعد 20 يوماً من تشكيل المجلس، خرج أردوغان ليصف الأسد بـ “الجبان”، ودعاه إلى التنحي عن منصبه، في أوضح تصريح تركي مناوئ للأسد.
ثم بدأت تركيا بإجراءات معادية لسوريا، كانت بدايتها، تجميد ممتلكات حكومة دمشق في تركيا، وإيقاف التعاملات بين البنكين السوري والتركي.
تبعَ ذلك، تعليق تركيا في 26 آذار 2012، أنشطة سفارتها في دمشق.
وتحوّل التوتر السياسي إلى عسكري، عندما أسقطت الدفاعات الجوية السورية طائرة تركية من نوع F-4، فوق المياه الإقليمية السورية في البحر الأبيض المتوسط في حزيران 2012.
أعقب ذلك قيام تركيا بنشر بطاريات صواريخ أرض جو، على الحدود السورية التركية وقصف أهداف داخل الأراضي السورية؛ رداً على سقوط قذيفة من الداخل السوري على الأراضي التركية؛ تسبّبت بمقتل 5 أشخاص في 3 تشرين الأول 2012.
ولأول مرة، منح البرلمان التركي الصلاحية للحكومة؛ للقيام بهجوم داخل الأراضي السورية في 5 من الشهر ذاته.
وبعدها بـ 10 أيام، أعلنت تركيا إغلاق مجالها الجوي أمام الرحلات المدنية السورية، وفي 6 أيار 2013، بدأت بتدريبات عسكرية على الحدود السورية التركية.
في 4 تشرين الأول من العام ذاته، قال الأسد إن تركيا ستدفع ثمناً غالياً لدعمها “مقاتلي المعارضة”.
‘الأسد إرهابي‘
وكان أحد أبرز التصريحات التي عكست الموقف التركي من الرئيس السوري في خضم الأزمة السورية، هو التصريح الذي أطلقه أردوغان في نيسان 2017، عندما وصف الأسد بـ “القاتل”.
كما قال أردوغان، خلال مؤتمر صحفي مع الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي، في العاصمة تونس يوم 27 كانون الأول 2017، إن “الأسد قطعاً، إرهابي، ونفذ إرهاب الدولة”، لافتاً إلى أن “الاستمرار في وجود الأسد مستحيل. كيف يمكننا أن نتطلع إلى المستقبل مع رئيس سوري قتل قرابة المليون من مواطنيه”.
وكان الرئيس التركي الفاشي يرفض على الدوام بقاء الأسد أو التواصل معه، إذ كان قد قال في شباط 2018، خلال كلمة أمام ممثلي أمناء الأحياء في المجمع الرئاسي بأنقرة؛ رداً على دعوات التواصل مع الأسد “في أي شأن سنتحدث مع قاتل تسبّب بموت مليون سوري”.
كما أعاد الحديث ذاته في الشهر ذاته، عندما وصف بشار الأسد بالقاتل، وأبدى في كلمة أمام أنصار حزبه، العدالة والتنمية، في ولاية ديلوك (غازي عنتاب) بشمال كردستان، “استغرابه حيال وقوف العالم إلى جانب النظام السوري، ودفاعه عن الأسد”، موضحاً “أن تركيا لم تقف إلى جانب الظلم ولن تناصر الظالمين، وكانت وما زالت تدافع عن حقوق المظلومين وتعمل على نصرتهم”.
من جانبه، لم يكن الرئيس السوري يتحدث كثيراً عن نظيره التركي، لكن عند الحديث عنه، فاللهجة التي كان يستخدمها لم تكن أقل قسوة من تلك التي استعملها أردوغان.
فالأسد عندما زار جبهات ريف إدلب الجنوبي في تشرين الأول 2019 وصف أردوغان بـ “اللص” و”عبيد أميركا”.
ولم تكن تلك التصريحات هي الوحيدة، لكنها كانت الأبرز، واستمرت إلى حين كشفت دولة الاحتلال التركي عن تغيير كبير في بوصلتها السياسية تجاه الرئيس السوري بشار الأسد وحكومته القائمة في دمشق.
الهرولة نحو التطبيع
البداية كانت عن طريق أجهزة الاستخبارات، إذ عقدت عدة جولات من اللقاءات بين رئيس المخابرات السورية علي مملوك ونظيره التركي هاكان فيدان، ولم تنقطع العلاقات الأمنية بين الدولتين حتى في ذروة الصراع بينهما منذ بداية عام 2011، واستمرت حتى مهّدت الطريق للقاءات على المستوى الوزاري.
ففي 11 آب 2022، وبعد عدة لقاءات مخابراتية، كشف وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو أنه أجرى محادثة قصيرة مع وزير خارجية النظام السوري فيصل المقداد، على هامش اجتماع حركة عدم الانحياز الذي عقد في تشرين الأول الماضي بالعاصمة الصربية بلغراد.
وشدد جاويش أوغلو على ضرورة تحقيق مصالحة بين “المعارضة والنظام في سوريا بطريقة ما”، مبيناً أنه لن يكون هناك سلام دائم دون تحقيق ذلك.
أثار ذلك التصريح الكثير من علامات الاستفهام، خصوصاً أنه كان ترجمة فعلية لمساعٍ تركية جرى الكشف عنها علناً في اتجاه التطبيع مع دمشق.
وفي تصريح لم يعد مفاجئاً، تحدث أردوغان على هامش مشاركته في قمة أوروبية موسّعة بالعاصمة التشيكية براغ في 6 تشرين الأول 2022، وقال إنه قد يلتقي الرئيس السوري بشار الأسد، عندما يكون الوقت مناسباً، وإنه لن يستبعد ذلك.
وعلى هذه الوتيرة، تتالت المواقف والتصريحات التركية، فيما قابلتها مصادر سورية تحدثت مطلع كانون الأول المنصرم، عن رفض سوري لأي تقارب مع تركيا قبل الانتخابات التركية.
لكن وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، أعلن بعدها بأيام، أن بلاده جاهزة للعمل المشترك مع النظام السوري “لمكافحة الإرهاب”، ومن أجل العملية السياسية وعودة السوريين إلى بلادهم.
وقال جاويش أوغلو في كلمة ألقاها في 12 كانون الأول 2022، خلال مشاركته في مناقشة موازنة الخارجية التركية في الجمعية العمومية للبرلمان في أنقرة، إن الأجهزة الاستخباراتية التركية والسورية تواصل اتصالاتها منذ فترة.
ثم خرج أردوغان في 15 من الشهر ذاته، وقال إنه يريد عقد اجتماع مع الرئيس السوري، وإن وجهة نظر بوتين إيجابية حيال الأمر.
انطلاق قطار التطبيع
في حدث غير مسبوق، منذ بدء الأزمة السورية، اجتمع وزير الدفاع التركي مع نظيريه، الروسي والسوري، في العاصمة الروسية موسكو، الأربعاء 28 كانون الأول المنصرم، في ترجمةٍ للقاءات أمنية وتصريحات إعلامية مهّدت الطريق لأنقرة نحو دمشق.
وبعد يوم واحد فقط، من الاجتماع، قال وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو: “نخطط لعقد لقاء مع وزيري خارجية روسيا وسوريا كمرحلة ثانية لخريطة الطريق”، متوقعاً انعقاد الاجتماع في النصف الثاني من كانون الثاني الجاري في بلد ثالث.
المصدر: ANHA.