محمد أبو الفضل: تركيا تؤسس لنظام إقليمي بعد هزيمة إيران
(السلام- العرب) ..تعتقد تركيا أن سقوط حكم بشار الأسد في سوريا وتمكن فصائل مسلحة موالية لها من السيطرة على السلطة في دمشق، يعني تمكينها من وضع ترتيبات لنظام إقليمي جديد يحقق مصالحها، ويتواءم مع أهدافها في منطقة الشرق الأوسط، فلأول مرة تجد أنقرة نفسها أمام واقع يبدو مريحا لها، كانت تتمنى حدوثه منذ سنوات.
وقد تلقت إيران القوة الإقليمية المنافسة لها (نظريا) هزيمة في سوريا ولبنان وقطاع غزة، ويمكن أن تتلقى هزيمة أيضا صعبة في العراق، وإسرائيل التي أعلنت أنها ستقوم بترتيب أوضاع المنطقة على مقاسها لن تدخل في صدام مباشر مع تركيا في المرحلة الراهنة، على الأقل.
من هنا يجد العرب أنفسهم أمام مشروعين إقليميين، وكأنهم استبدلوا المشروع الإيراني باثنين، أحدهما تركي والآخر إسرائيلي، وإذا كانت بوادر عدة ظهرت للمشروعين منذ سنوات إلا أن التحولات الجارية في سوريا، وقبلها تعرض حزب الله في لبنان وحماس في غزة لمعركة كسر عظم وعرة، سوف تمكنهما من تحويل المشروعين إلى واقع ملموس على ضوء التطورات المتلاحقة في المنطقة.
وهو تحد يواجه الدول العربية التي تكرر الخطأ نفسه عندما امتلكت طهران مشروعها الخاص بتصدير الثورة وتجنيد أذرع عربية تأتمر بأوامرها وتسبب متاعب لدول عديدة في المنطقة، ولم يمتلك العرب أو أيّ من دولهم الرئيسية مشروعا مستقلا موازيا، وفشلت الكثير من المحاولات الجماعية والثنائية في مجابهة مشروع إيران، بآخر له معالم واضحة، يستطيع فرملة تغولها في نحو أربع عواصم عربية.
وقد تكرر الدول العربية غلطتها مع إيران مع تركيا أيضا، حيث لم تظهر ملامح لأيّ مشروع يمكنه التعامل مع تداعيات الأوضاع المتدحرجة في سوريا، وكل ما رشح كلمات عامة لا تنطوي على رغبة في امتلاك مشروع، أو محاولة جادة للمشاركة في إعادة هندسة سوريا الجديدة.
ولا توجد دولة عربية، باستثناء قطر، تملك علاقات مع الفصائل المسلحة بقيادة هيئة تحرير الشام، وكل العلاقات منصبّة مع قوى وجماعات وائتلافات فرعية غير معلوم حجم الدور الذي يمكن أن تلعبه في مستقبل سوريا، ما يعني أن المفاتيح سوف تظل في جعبة تركيا، والتي لم تنكر غضبتها، أو بمعنى أدق شماتتها في سقوط نظام بشار الأسد، الذي نتفق حوله أو نختلف عليه، لكنه كان شوكة في ظهر أنقرة.
ولا يختلف مشروع تركيا الجديد عن مشروع إيران القديم، إلا في أنه يستبدل اعتماد الثانية على الشيعة بالسنة، ويملك تقريبا نفس التوجهات والديناميكيات والأهداف والتحركات الخفية، والتي تؤدي في محصلتها إلى المزيد من تقسيم المنطقة، والخطورة في أن غالبية الدول العربية تتبع مذاهب أهل السنة الأربعة، وهنا نقطة الخطورة فالبيئة التي وجد فيها مشروع طهران حاضنة اجتماعية كانت تعتمد على أقلية شيعية وسط محيط سني أكبر عددا، خاصة في منطقة الشمال الأفريقي، التي ينتظرها المزيد من الإزعاجات إذا قررت تركيا تصدير أو ترحيل جماعات وعناصر حاربت في سوريا خلال السنوات الماضية إلى دولها.
كما أن القاعدة الاجتماعية، ممثلة في جماعة الإخوان، مهيأة لاستقبال المشروع التركي، والذي لا يجد معارضة من قبل الكثير من القوى الغربية، وربما تشجيعا إذا جاء في صيغة معتدلة، ولم يوجه دفته نحو أوروبا لجذب الإسلاميين في دولها إليه.
تلعب تركيا على وتر أن مشروعها يمكن أن يخفف واحدة من التحديات التي تواجه دول أوروبا، وهي وقف الهجرة واحتواء نشاط الإسلاميين من أصحاب الأفكار العقائدية، وإعادتهم إلى بلدانهم، بعد أن تلقوا ضربات وتضييقات أمنية في أوروبا الفترة الماضية جعلت عددا كبيرا منهم كامنا، لكنهم لم يتخلوا عن معتقداتهم الدينية، وخروج هؤلاء أو نسبة كبيرة منهم يريح قادة أوروبا، ويقدم ذخيرة حية ومتنوعة للمشروع التركي، الذي انتظر إلى حين سقوط تفاحة سوريا في حجر رجب طيب أردوغان.
وكما حدث بعد الغزو الأميركي للعراق وسقوط نظام الرئيس صدام حسين حيث انشغلت غالبية الدول العربية المعنية بارتداداته الإقليمية، تنشغل الآن الدول نفسها بارتدادات سقوط الأسد، والتي قد تصبح أكثر خطورة لأن عددا كبيرا من الجماعات المسلحة التي نشطت في سوريا له جذور في دول عربية عديدة، بل لهم ثارات كثيرة مع بعض حكامها، ما يجعل الحكام أشد قلقا من النتائج التي يمكن أن تترتب عما حدث في سوريا، مقارنة بالعراق.
علاوة على أن مشروع تركيا له نواة ظهرت معالمها قبل نحو عشر سنوات، ولم يكن مفاجئا، مثل العراق، وهذه واحدة من النقاط المحيّرة في تعامل بعض الدول العربية مع أنقرة والدخول في مصالحات سياسية معها، من المفروض أن تمكنهم من التوصل إلى تفاهمات مع أنقرة بشأن ترتيب الأوضاع في سوريا بسهولة خلال المرحلة المقبلة، وبالشكل الذي لا يضر بالأمن القومي العربي.
لا أعلم هل هناك توجهات عربية بهذا الشأن أم لا، لكن اجتماعات العقبة التي حضرها إلى جانب ثمانية وزراء خارجية عرب ووزير خارجية تركيا، ما يشير إلى وجود رغبة معلنة في التعاون والتنسيق. لكن لا أعلم مدى الاستجابة التركية العملية حول المطالب العربية، التي يدور فحواها حول ضرورة الحفاظ على وحدة سوريا وتشكيل نظام حكم رشيد لا يستثني أحدا من الطوائف والجماعات والقوى المتنوعة، وكلها سرديات عامة لا تغوص بعمق في التمسك بالمحددات الحاكمة للسلطة، التي يصعب أن تلتزم بها أنقرة، لأنها تنسف مشروعها، وإن كانت تتظاهر بأنها منسجمة مع هذه المطالب.
أعتقد أن بعض الدول العربية تعرف نوايا تركيا جيدا حيال سوريا، وعليها ألا تنتظر وترى تصرفاتها، لأن ما تحمله التوجهات لا يقول إنها عازمة للحفاظ على وحدة سوريا وسحب قواتها من أراضيها، فقد أتتها فرصة انتظرتها سنوات طويلة، يصعب أن تفرط فيها، أو تضحي بما راكمته عبر عقود من تدخلات سافرة لم تستجب خلالها لكل النداءات العربية بشأن ضرورة احترام سيادة سوريا والعراق.
ولذلك تجد أمامها فرصة مواتية لتحويل مقاربتها نحو البلدين إلى حقيقة دائمة، مصحوبة بمشروع تعتقد أنه يمكنها من فرض هيمنتها، وبالتالي تجد ما يعوضها عما كانت تحلم به في أوروبا أو آسيا في الشرق الأوسط، ويؤدي تثبيت مشروعها في هذه المنطقة إلى تحقيق مكاسب لها في مناطق أخرى، حيث تحلم بزيادة قوتها وتوسيع نفوذها لتصبح رقما مهما في أي معادلة جديدة في العالم، وليس الشرق الأوسط فقط.