شورش درويش: الحرب على شرق الفرات خطأ حسابي أكيد

(المركز الكردي للدراسات- السلام) .. ينكشف الحديث حول مستقبل سوريا على أصوات تدعو للحرب على شمال شرقي البلاد. وفوق الهياج والكراهية اللذان يتحكّمان بهذه الأصوات، فإنه يصح القول فيها بأنها فاقدة لكل إحساس بالمخاطر التي تنطوي عليها فكرة الحرب التي لا تدخل في مصلحة السوريين، ذلك أن الحرب تعني هتك المتبقي من النسيج الوطني الذي حطمته حرب دامت أكثر من ثلاثة عشر عاماً، وتعني أيضاً فقدان المزيد من السوريين لأرواحهم وسبل عيشهم وتدمير ما تحقّق من نصر سلس وهادئ أفضى للإطاحة بحكم بشار الأسد في نهاية المطاف. كما تعني الحرب أيضاً تعطيل استحقاق الانتقال لبناء أجهزة الدولة ومؤسساتها، وتأجيل رفع العقوبات الدولية عن دمشق وتوقيف مشاريع إعادة النظر في أوضاع أعضاء هيئة تحرير الشام المصنّفين على قوائم الإرهاب.
إلى ذلك، فإن أحوال سوريا الفقيرة والمعوزة والمدمّرة لا تشير إلى حتمية اللجوء لخيار الحرب الجديدة. فالحرب، وفق ما اختبرناه طيلة السنوات السابقة، تستنزف خزينة الدولة الفارغة أصلاً وتساهم في تدخل الخارج في الداخل. فبعد أن شارفت سوريا على بلوغ عتبة التخلّص من الحضور الخارجي مع انسحاب الإيرانيين وتلاشي النفوذ الروسي، فإن الحرب قد ينجم عنها، حال وقوعها، حضور خارجيّ جديد يضيف لحاضر البلد طبقة جديدة من الأزمات ذات طابع الإقليمي وربما الدولي.
يتغذّى دعاة الحرب على فكرة مؤدّاها أنه أصبح للسوريين نظام حكم ورئيس «شرعيَّين»، وأن من حق هذه السلطة الناشئة بسط كل سلطتها على كل الأراضي السورية سواء برضا المحكومين أم رغماً عنهم. ومن جملة ذلك، إلحاق شرق الفرات بالقوّة العارية بسلطة دمشق، مستفيدين في ذلك من حالة العداء التركية المديدة للإدارة الذاتية ومن طاقة إعلامية مهولة كارهة للكرد ومشروع العيش المشترك الذي تتبنّاه قوى سياسية واجتماعية في الجزيرة السوريّة.
على أن مسألة «الشرعية» وأحقية التسلّط على قرار بقية السوريين، قد تدفعنا للمقارنة بأحوال النظام البائد حين كان يبرّر حروبه على السوريين باسم السيادة والشرعية وحق الدولة الحصري في اللجوء للعنف لبسط الأمن واستعادة النظام العام. ويضاف إلى ذلك، استناد الأسد لأحكام دستوره الذي خوّله إعلان الحرب بوصفه القائد العام للجيش والقوات المسلّحة، وهو ما يفتقر إليه الشرع في الوضع الراهن، أي الوضع الدستوري اللازم للخوض في مغامرة عسكرية.
واقعياً، ثمة حكم قائم باسم شرعية ملتبسة في هذه الأثناء، إذ لم يوقّع على ورقة تعيين الشرع رئيساً مؤقّتاً لسوريا سوى رهط من الفصائل المسلّحة، وكأن الأمر جرى في إطار موافقة تركية على منح الشرع الشرعية اللازمة حيث حضر اجتماع «التتويج» يوم 31 يناير/كانون الثاني الماضي الفصائل الموالية لأنقرة، إلى جانب هيئة تحرير الشام وبعض الفصائل محدودة الأثر، في ظل غياب تام أو استبعاد موجّه لقادة الجبهة الجنوبية وحركة «رجال الكرامة» و«قسد»، الأمر الذي يجعل الموضوع أقرب لفرض صيغة أمر واقع للتخلّص من الشروط والواجبات التي قد تفرضها تلك الفصائل المستبعدة. فوق أن شكل التعيين العسكري للرئيس يشي بملامح حكم فصائلي على الطراز المملوكي. فبعد أن كانت الجيوش الانقلابية مصدراً للسلطة غير المنتخبة، فإن الفصائل أصبحت مصدر الشرعية، ما يعني انحدار الأوضاع في سوريا نحو وضع ترسم ملامحه الفصائل بدل الجيوش، لتصبح أحد مصادر شرعية الحكم وما تنطوي عليه هذه الشرعية الفصائلية من التحكّم بقراري الحرب والسلم ورسم سياسات الدولة الاقتصادية وإعادة تشكيل مؤسساتها وصورتها العامة.
لكن ما لا يدركه المتحلّقون حول الشرع من دعاة الحرب وتكرارهم لمعزوفة «أهلاً بالمعارك» أن الرجل ليس بمقدوره الذهاب إلى الحرب في الوقت الراهن خاصّة أن لديه خزّان من الجهاديين العالميين الذين إذا جرى تفعيل دورهم القتالي قد يصار إلى استعادة العالم لذكريات «خلافة داعش» وما استوجبه حضور الجهاد الأجنبي على الأراضي السوريّة من تنادٍ عالميّ موازٍ لبناء تحالف دوليّ أفضت جهوده بالشراكة مع قوات سوريا الديمقراطية إلى التخلّص من دولة الخلافة الواقعة. ولعلّ الحديث عن المقاتلين الأجانب يذكّر بوجود زهاء 15 ألف مقاتل أجنبي منضوٍ في هيئة تحرير الشام أو يقف إلى يمينها. رضخ بعض أولئك الجهاديين لمشيئة الهيئة وعطّل فكرة الجهاد خارج الحدود السورية. وبعضهم يعتكف في المناطق النائية بسوريا يقلّب رأيه الفقهيّ. والبعض الآخر قرر الالتحاق بالسلطة الجديدة بشكل نهائيّ. والحال، قد يتسبّب إشعال الحرب على شرقي الفرات في قيام سلطة جهادية على قاعدة «المغرم والمغنم».
من المفيد الإشارة إلى عامل مضاعف لا يجعل الحرب خياراً مناسباً. فمن بين المشكلات التي تؤرّق حكّام دمشق، يظهر ملف تنظيم داعش الذي بدأ نشاطه يتنامى في البادية وما يزال الآلاف من عناصره يقبعون في مرافق الاحتجاز التي تديرها «قسد». من منظور عملي، يمثّل التنظيم أحد الأشباح التي تقلق هيئة تحرير الشام. فمن شأن ارتخاء قبضة «قسد» أو انفلات الأوضاع في مرافق الاحتجاز أن تدفع التنظيم لمواجهة أكيدة مع الحكومة المؤقتة (الهيئة)، إذ ثمة تاريخ من المواجهات الدامية بين الطرفين كانت مدن الجزيرة مسرحها الأساسي. ولا يخفى أن قدرات هيئة تحرير الشام ما تزال محدودة في مجال ملاحقة فلول «داعش» أو تأمين مرافق الاحتجاز. وعليه، فإن التفاهم حول إدارة هذا الملف يمثّل صمغ العلاقة بين «قسد» ودمشق، بالعكس تماماً مما يصوّره دعاة الحرب بأن «داعش» مجرّد تفصيل صغير لا يستوجب الوقوف عليه.
ما لا يدركه دعاة الحرب أيضاً أن التفاوض بين السلطة الجديدة و«قسد» يمكن أن يثمر نتائج معقولة شريطة توافر الإرادة المشتركة والرعاية الدولية اللازمة. فقبل قليل من تولّي دونالد ترامب سلطاته الفعلية، دأبت إدارة سلفه جو بايدن على تكثيف اللقاءات بين «قسد» والهيئة لأجل تحقيق غايتين: التخلّص من الفيتو التركي المفروض على دمشق والذي يحظر عليها أي تعاطٍ بنّاء مع «قسد»، وثانياً اعتياد دمشق و«قسد» على فكرة اللقاءات المباشرة كطريقٍ وحيد للوصول إلى تفاهمات مستقبليّة. ولعل ما رشح من تلك اللقاءات، إن كان وصف بأنه إيجابي لجهة تبريد الخيار العسكري، فإنه يعكس قبولاً لفكرة الوساطة الأميركية التي قد تتجدّد في وقت لاحق.
ثمة إشارات يطلقها «إعلاميون» مقرّبون من سلطة دمشق ومتظاهرون يدعون إلى حرب عاجلة بأن الحرب على شمال شرق سوريا آتية لا محالة، مستندين في ذلك على ما يقوله الشرع وكبار مسؤوليه في السرّ بأن الحرب «مسألة وقت». لكن الاعتبارات أعلاه لا تشير إلى جدّية مثل هذه التهديدات التي تدخل في باب الحرب النفسية وتحريض مكوّنات شرقي الفرات ضد سلطة الإدارة الذاتية. وفي مجمل الأحوال، تبقى مسألة إعلان الحرب خطأً حسابياً جسيماً لا يمكن أن ترتكبه سلطة مؤقّتة تسعى لإقناع العالم بأنها باتت أكثر براغماتية وأقل عقائدية.