أخبارمقالات

سيهانوك ديبو: العالقون: مناع وبرقاوي نموذجاً

الأول صديق. والثاني أستاذ. سيبقى الثاني، والأول حينما يفسح المجال للردود الخلّاقة ويؤمن بأخلاقية التفاوض وبفعلها؛ لا يكتفي بالتعامل معها محض مادة، أو كتصرف أكاديمي فقط. ومن المهم أن يعتبرا وكلّ من يهمهم أمر الشراكة العربية الكردية- الكردية العربية؛ بأن ما يأتي يصنَّف ضمن دائرة النقد البنّاء وليس منه الهدّام، مع العلم بأنهما مارسا –خصيصاً- في الآونة الأخيرة هدماً أو في أحسن الأحوال أحكاماً افتراضية سبَّبتها حُكْمِ الدوائر الضيقة المعششة في ذهنيتهما. الذهنية التي هي سلسلة كاملة من الطباع الموروثة والتطبعات المدركة والمستدركة التي تتثبت لدى شخصاً ما على أنها الأصلح، وعبرها يتغيّر النواجذ فيها والمُسطّح لها، وكل شيء يجري في فلك الأحكام التعليلية.

بدايةً من عند الأستاذ برقاوي قولاً: بأنه بالحكم غير الأخلاقي حينما نسمح أو يسمح لنفسه أيّ سوري/ عاش على التراب السوريّة كي يعرض على سوريٍّ آخر حقوقه؛ قائمة مستحقاته، واجباته، ويرسم له مساراته. ويصنف إحداها بالوطني وثانيها بغير الوطني، وأُخراها بالملائمة وغيرها بغير المغايرة. هل لمثل هذا تعريف سوى الاستبداد؟ هل لهذا توسيم غير الاستعلاء؟ هل لمثل هذا التصرف –بات مزمناً عند الكثير-  تصنيف سوى غير التهميش للآخر المختلف؟ علماً بأن كل سوري وكل مشروع سوري طالما يؤكد وحدة سوريا وسيادتها وسلامتها الإقليمية فله الحق وللآخرين الحق بمتراصفة تبدأ بالقبول والتعديل والتطوير وصولاً إلى طرح البديل. كلّ سوري وليس الكرد وحدهم الحق في ذلك. قطعاً لقد ملّ الكرد من مبدأ الوصاية؛ ومن كل وجع ألّمّ بهم منذ قرن ونيّف الماضية؛ ومن أن يكونوا مواد دسمة لتقارير حقوق الإنسان، وأدلة على انتهاكات الحقوق الطبيعية بحقهم كمجموعة بشرية وحقيقة تاريخية لها خصوصية اثنية قومية. لقد أتعبهم بأن يكونوا شواهد القبور في لعبة الأمم ضد أنظمة الاستبداد المركزي، وورقة لتركيع المرتعبين من حل القضية الكردية حلاً عادلاً. للأستاذ برقاوي الحق الكامل في الدفاع عن الهوية العربية، ولن أناقشه في ذلك وفي (الوصايا) التي خلّفها في مقاله، وبما أُثيرت من آراء حولها وحيالها. أناقشه بالأعَمِّ. من مقال أخير له؛ وتردد بشكل متكرر على لسان غيره؛ في أن فشل الحراك الثوري السوري عائد بسبب الريفية، وابتعادها عن قيم المدينة! لكني –أكاد أجزم- أعلم ولع برقاوي بمدينة أفلاطون وجمهوريته الفاضلة. سوى أن ما لا يريد أن يعرف مثله؛ في ذلك مثل أي عالق؛ بأن كل المشاكل الأنسية بدأت حينما غادر الإنسان المجتمع الطبيعي. متوهماً بأن العدالة والمجتمع الفاضل والمثالي يُنْجَز في المدينة. لكنه وحينما غادر الإنسان إلى المجتمع الوضعي وبدأ يشرّع في تأسيس المدن؛ سجّلتْ –ما تزال- الإنسانية عشرات الآلاف من الحروب. في اللحظة نفسها من وقوع واقعة المغادرة من الطبيعي إلى الوضعي بدأ بإنفاذ الطبقية والعبودية وأن المرأة التي أسقِط حقها في المجتمع المديني الوضعي، وبات أفضل المحلّات لها بأن تكون تابعة للرجل. باستثناء مجتمع سبراطة؛ فإن كل اليونان راقه ذلك، وحتى اللحظة فإن كل أوربا كذلك. كل الاستغراب حينما يتم اتهام مجتمع أمريكا وعموم الغرب بالعنصرية فيما يزال أغلبنا عالق في واقعة مرحلة العبودية؛ حتى إن كانت مقننة؛ وما يزال أغلبنا يعجبه فقط منطق الوصاية في التعريف للغير بحقوقهم. أما الإنسان يا أستاذي –حتى لو كان خليفة الله على الأرض- فإنه ليس بسيد الطبيعة. الإنسان هو خادم للطبيعة في حال أراد إنقاذ نفسه. وحلولنا –كسكان وبشر الشرق الأوسط- لا تستقم سوى على طريقة تحويل المجتمع الواحد إلى مئات من المؤسسات الكونفدرالية وصولاً إلى قلب هرم السلطة: قاعدته فوق وقمته في الأسفل؛ لينتج وبشكل حقيقي الحل الديمقراطي من سلطة الشعب لنفسه بنفسه. لا يفيد كثيراً هنا إن كانت الدولة فيدرالية أو بأي شكل من أشكال اللا مركزية  الديمقراطية، إذْ لا يمكن أن نمرر مجتمعاتنا شرق أوسطية عبر أنابيب التحول الرأسمالي. فلهذا التحول وجوب وجود الذهنية المؤدية إليه ومنه وفيه. من المؤكد لن يُفهم بأنها دعوة إلى هدم المدن إنما التوازن والريف الأساس، وإنهاء كامل لظاهرة طرفية المدن المتشكلة عبر تراكم الهجرة الريفية إلى المدن، وهؤلاء واقعة عالقة بحد ذاتها: لم تستطع ترك ذهنية الريف ولم تندمج في المدينة. الأمة الاسلامية أنتجت صراعاً على أساس السنة الشيعة، والأمم القومية فرّغت وتفرّغ بالضرورة صراعات على أساس القومومي. كل سوري يجب أن يعادي تركيا الأردوغانية لأن مشروعه العثماني خليط مسخ من نصف ديني ونصف قومي. أما نموذجنا ومشروعنا هو الأمة الديمقراطية كفكرة تكرس لأساسية العيش المشترك، وتنهي حالات الخصومة، وفي الوقت نفسه تؤكد الحق القومي والديني لجميع القوميات والأديان ولكل انتماء أوليّ نحو الانتماء الوطني في دولة المواطنة المتساوية. لو سألتني أستاذي: كيف تنظرون إلى حل الأمة الديمقراطية في الأزمة السورية؟ أقول لكم: انتماؤنا السوري إدراكنا لكرديتنا، انتماؤنا لكرديتنا إدراكنا لسوريتنا. وقس ذلك على ما شئت في بلد يتألف نحو أربعين من المكونات القومية والدينية. وهنا فإنه لا يوجد في سوريا أكثرية وأقلية، يوجد فيها قوميات واثنيات وأديان وطوائف. أما إلزام العددية وحالة التنوع فهو أمر ضار وربما غير أخلاقي، العددية احتكام مؤقت حين مواجهة –مثالاً- صندوق الانتخاب والترشح؛ قد وربما أيضاً من الطبيعي أن تؤدي إلى مصفوفات ضمن القوم الواحد؛ طبقاً للبرنامج الذي يقف وراء كل صندوق.  

أما السيد مناع. فإنه يضع نفسه بنفسه في حالة قلقة. حديثاً؛ يطالب السيد مناع في جواب على رئيسة تحرير الصباح التونسية الوطنيين بإلغاء الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، ويطلب ذلك في سياق يوازيها؛ أي الإدارة الذاتية؛ والإمارة في إدلب المدعومة المحَرَّكة من قبل النظام التركي! بالطبع يأتي هذا التصريح/ الموقف بعد توقيع أعضاء من تياره على قائمة –لا يمكن أن نسميها سوى قائمة التهافت- ضمت بضع مئات من سوريين مختلفون ولا تجمعهم أي وشيجة فكرية ولا برنامج سياسي؛ سوى أنهم استنهضوا بسبب حوار سيادي سوري عنوانه تفاهم أولي كردي كردي. شحذوا هؤلاء الهمم بناء على تسريبات. وقد ناقشت صديقة أخت موقعة؛ وعدتني بأن يصدر توضيح بنّاء في ذلك، لم يحصل حتى اللحظة، وأغلب الظن بأنه لن يحصل. والسيد مناع المعهود له بتدريس/ تلقين أساسيات التفاوض لا يصلح للتفاوض أو الحوار، ولا يلتفت إلّا لصوته، وهو بالفترة الأخيرة يتكلم كثيراً ولا يقول إلّا القليل؛ في حال قال. التفاوض يا صديقي ليس أن ينتقل كل من آ و ب إلى المنطقة ج؛ فقط. التفاوض هو عمل جمعي ينتج التكامل والضرورة والتتام لفريقين أو أكثر بحسب كل من يملك أو ليس عنده وهو عند غيره. أن تكون حقوقياً أو إلغائي، أن تدعو إلى مؤتمر وطني يحضره الجميع أو تحضر كجزء إلى مؤتمر وطني، لا أن تنفصل عن الواقع كي تبدو بالعالق؛ جرّاء نفسك. كل من عهد السيد مناع يدرك بأنه لا يصلح كثيراً للعمل المشترك. مؤخراً؛ كتب مقالاً يؤكد فيه بأنه تلقى رسالة من المطران الراحل هيلاريان كبوتشي في 10 مارس آذار 2016 مفادها تنظيم لقاء بينه والرئيس الأسد. كان وقتها رئيساً مشتركاً لمجلس سوريا الديمقراطية والسيدة إلهام أحمد. لم تعلم حتى إلهام أحمد بذلك ولا أي عضو من أعضاء مسد. هذا مثال إلى جانب أمثلة أخرى لا داع لذكرها. وحتى المثال الموجود جاء بعد ما نشره السيد مناع الذي كأنه تذكر فجأة مأساة عفرين؛ علماً بأنه كان بمثابة رأس حربة في الدستورية من سوتشي 30/31 يناير كانون الثاني 2018 المنعقدة تحت مظلة إحدى أهم دعائمها تركيا التي كانت تقصف وقتها عفرين لمدة عشرة أيام، وبقيت مقاومة بعدها مدة 48 يوماً مقاومة العين للمخرز. حتى مصطلح اللامركزية الديمقراطية كمكسب مثبت في وثائق  القاهرة2 يونيو 2015 لم يعد يستخدمها السيد مناع لأنه اقتنع بأنها لم تكن من نتاجه الفكري إنما من فكر الإدارة الذاتية  الممثلة وقتها في مؤتمر القاهرة2 وفي لجنتها التحضرية. ماذا يمكن القول عن التبدل الجذري في الموقف من مؤيد عن الإدارة الذاتية إلى داع بإلغائها سوى العالق؟

استعصاءات الحل السوري كثيرة؛ لكن إلى وضع العالق تعود أهمها.

نعيش جميعنا كسوريين في وضع صعب جداً. إنه بالوقت الذي يستدعي فيه مدّ الجسور وإعادة الثقة والعمل المشترك دون وصاية ومن دون استعلاء وانفصال عن الواقع، ومن دون انقسام عن حقيقة مفادها: الأزمة السورية هي أزمة بنيوية معرفية تؤكد أولاً الإقلاع من وضع العالق فكرياً وسياسياً وثقافياً، وعدم التعامل بالشك والأحكام المسبقة، والخلاص من التهم الجاهزة، وإحداث حالة قطيعة ابستمولوجية عن منطق الوصاية والوصايا؛ فإنه وقت المبادئ والأفكار المنفتحة.

المصدر: آدار برس.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى