بين دجلة والفرات العظيمين…تركيا مستمرة في حرب التعطيش
دأبت دولة الاحتلال التركية في استخدام المياه كأداة حربٍ ضد الشعوب الجارة لإرضاخهم على مدى عقودٍ مضت، متجاهلةُ حقوق الملايين من السكان في سوريا والعراق في انتهاكٍ للمبادئ الأخلاقية والمعايير الاجتماعية.
تعيشُ مئات القرى في شمال وشرق سوريا على ضفاف نهر الفرات، أوضاعاً مأساوية في ظل خفض تركيا عمداً منذ أشهر لمنسوب مياه النهر المتدفق إلى الأراضي السورية.
حيثأكد مسؤول مكتب الطاقة في الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا؛ ولات درويش في تصريحٍ سابق لوكالتنا، أن “نسبة المياه المتدفقة إلى الأراضي السورية من تركيا لم تتجاوز الـ200 متر مكعب في الثانية، منذ 9 أشهر”، خلافاً للاتفاقية المبرمة بين سوريا وتركيا والتي تنص على حق سوريا في الحصول على 500 متر مكعب من المياه في الثانية، تُضخُ 58 % من تلك الكمية إلى الأراضي العراقية.
وفي بيانٍ أرسلَ إلى منتدى المنظمات ومجموعات المياه العاملة في شمال وشرق سوريا، أصدرهُ مكتب الطاقة، ذّكرَ فيه أن “بحيرة الفرات بطول 80 كم وعرض يتراوح بين 4 و12 كم؛ والتي تسعلـ 14 مليار متر مكعب من المياه؛قد انخفض منسوبها 6 أمتار عن مستواها المعهود”.
ونشرت وكالة الفضاء الأوروبية صوراً التقطت بواسطة الأقمار الاصطناعية في آب/أغسطس المنصرم، أظهرت مدى تراجع منسوب بحيرة الفرات “بشكلٍ مرعب” مقارنةً بالأعوام السابقة.
جولاتٌ وصولات بين تركيا، سوريا والعراق أفضت لتسجيل اتفاقية لدى الأمم المتحدة
في تقريرٍ نشرته هيئة التنسيق الوطنية السورية صيف عام 2016، تناول دراسةً حول العلاقات السورية التركية وتأثيرها على الأمن المائي في سوريا والذي جاء فيه تسلسلٌ للجولات بين البلدين على الشكل التالي:
عام 1962: عقدت أول جولة لتبادل المعلومات والبيانات ووجهات النظر بين سوريّا والعراق وتركيا وتعرف كل طرف على وجهة نظر الآخر، واستمر عقد جولات فنية بين عواصم الدول الثلاث بالتناوب خلال الفترة اللاحقة ولم يتم التوصل إلى نتيجة فعلية.
عام 1975: بناءً على مباحثات اللجنة الفنية المشتركة ووساطة البنك الدولي، قسمت حصة البلدان الثلاثة بنسبة الثلث من متوسط وارد النهر السنوي.
عام 1980: تمكن الجانب العراقي من توقيع بروتوكول مع تركيا نص على “ضرورة التوصل لاتفاق على اقتسام مياه نهر الفرات خلال مهلة لا تتجاوز شهر شباط/فبراير 1982 م “، وتشكلت لجنة لهذا الغرض (ودعيت سوريّا إليها) وبدأت بعدها سلسلة من الاجتماعات خلال الأعوام اللاحقة ولم يتم التوصل إلى نتيجة فعلية إلى أن توقفت أعمال اللجنة في أكتوبر 1992 بسبب تعنت الجانب التركي.
في 1987: خلال زيارة “تورغورت أوزال” رئيس وزراء تركيا إلى دمشق، تم توقيع بروتوكول للتعاون الاقتصادي والفني، تنظم المادة السادسة منه الحصص بين سوريا وتركيا بشكل مؤقت حتى الانتهاء من ملئ سد أتاتورك عام 1993 ثم تعود حصة تركيا إلى الثلث، والتي تحصل بموجبها سوريا على معدل تدفق لا يقل عن 500 متر مكعب بالثانية من مياه نهر الفرات “ما يعادل 50 % من واردات نهر الفرات سنويًا”.
عام 1989: تم توقيع مذكرة تفاهم ثنائية بين سوريا والعراق تنص على إطلاق سوريا 58% من مياه نهر الفرات الواردة إليها من تركيا فيما تكون الحصة الباقية لسوريا وهي 42%، (حصة سوريا من مياه نهر الفرات 6.627 مليار متر مكعب، وحصة العراق 9.106 مليار متر مكعب وحصة تركيا 15.700 مليار متر مكعب في السنة(.
في عام 1994: قامت سوريا بتسجيل الاتفاقية المؤقتة المعقودة مع تركيا عام 1987 لدى الأمم المتحدة لضمان الحد الأدنى من حق سوريا والعراق في مياه نهر الفرات.
تركيا عاودت فتح جبهة الفرات بذريعة حزب العمال الكردستاني
منذ عام 1989 بدأت تركيا بتنظيم حملة دولية لإخراج القائد عبدالله أوجلان من سوريا، وهددت عدة مرات بإعلان الحرب عليها، في ظل المواقف العربية الخجولة، عادت قضية الفرات حينها إلى الواجهة من جديد والتي لم تحل إلى الآن، مع إصرار تركيا آنذاك في بناء السدود والتحكم في جريانه إلى دول الجوار سوريا والعراق، واعتباره نهراً تركياً عابراً لتلك الدول ومن حقها قطعه متى دعت الضرورة، لتشكل فيما بعد قضية وجود القائد أوجلان على الأراضي السورية مسألة أخرى تضاف إلى الملفات العالقة بين الدولتين والتي تم تجاوز أغلبها بعد وصول بشار الأسد إلى سدة الحكم.
أطلق سليمان ديميريل قبل توليه منصب الرئاسة التركية، التهديد لسوريا بخصوص أزمة المياه في عام 1992؛ عند تدشين سد “اتاتورك”، والتي قال فيها:”إن سوريا والعراق لا يستطيعان المطالبة بحصة من النهرين (التركيين) دجلة والفرات، بقدرٍ يزيد على حصة تركيا من بترولهما”.
في عام 1993 زار وفد تركي رفيع المستوى برئاسة سليمان ديميريل، وتم التوصل أثناء لقائه بالمسؤولين السوريين إلى اتفاق يقضي بموافقة تركيا على زيادة حصة سوريا من مياه نهر الفرات مقابل التزام سوريا بإخراج حزب العمال الكردستاني ومنع نشاطاته في البلاد.
مسار نهري دجلة والفرات
نهر الفرات (2800 كم) الذي ينبع من مناطق مختلفة في شمال كردستان أهمها ينابيع وبحيرات بينغول والهضاب القريبة من الحدود الأرمنية، يشكل طوله في شمال كردستان قرابة 1200 كم، فيما يدخل النهر الأراضي السورية بالقرب من مدينة جرابلس أٌقصى شمالي البلاد ليمتد مجراه حتى مدينة البوكمال بطول 600 كم في سوريا، وبالقرب من مدينة القائم يتدفق النهر إلى الأراضي العراقية ويشق مجراه حتى يلتقي بنهر دجلة بالقرب من مدينة البصرة قبل أن يصب جنوباً في الخليج العربي ليقطع مسافة 1100 كم في الأراضي العراقية.
أما نهر دجلة (1900 كم) فينبع من مصادر الفرات عينها، ويبلغ طول مجراه في شمال كردستان 500 كم، فيما يجري مسافة 50 كم بمحاذاة الحدود السورية؛ ويدخل جنوب كردستان عند منطقة زاخو من ثم الأراضي العراقية في الوقت الذي تصب فيه 5 روافد وهي، الزاب الكبير، الزاب الصغير، الخابور، ديالى والعظيم، ويلتقي بالفرات ويشكلا سوياً شط العرب بطول 200 كم ويصب في الخليج العربي.
تجفيف مجرى الأنهار والينابيع “استراتيجية تركية” ترافق حربها العسكرية
إلى جانب جرائم الحرب وعمليات التغيير الديمغرافي التي ارتكبها جيش الاحتلال التركي والفصائل والجماعات المرتزقة التابعة لها (داعش- جبهة النصرة- الجيش الوطني) على مدى أعوام مضت في سوريا، فتحت الدولة التركية جبهة المياه ضد السوريين بالتزامن مع العدوان العسكري المتواصل.
إذ تأتي هذه الممارسات في إطار المساعي التركية الهادفة لتهجير أكبر قدرٍ ممكن من سكان المنطقة وإفراغها، باستخدام أساليب عديدة من بينها الحرب الخاصة عن طريق الاجهزة الاستخباراتية والقصف المتواصل بأسلحة ثقيلة والطائرات المسيرة التي تستهدف بشكلٍ يومي مناطق متفرقة في شمال وشرق سوريا، والسياسات التركية فيما يخص مجرى نهر الفرات.
وبدأت تركيا ببناء شبكةٍ من السدود على مجرى نهر الفرات منذ 1966، ببناء أول سد وهو “كيبان” في ولاية آلازيغ في شمال كردستان بسعة تخزينية تصل لـ 30 مليار متر مكعب من المياه، واستمرت ببناء السدود بعد ذلك حيث أنشأ سد “بغشتاش” في أرزنجان، “كركايا” في آمد،”أتاتورك” بين ولايتي رها وسامسور، و”قرقاميش” في ديلوك (عنتاب).
حيث يعتبر سد أتاتورك بسعته التخزينية 48 مليار متر مكعب من المياه، من بين 5 من أكبر السدود في العالم، إذ يشكل معوقاً اساسياً في انخفاض المياه الواردة إلى سوريا والعراق.
إلى جانب الكميات الضخمة التي تخزنا السدود التي انشأتها تركيا، وتحويل مسار بعض الروافد للأراضي الزراعية في سهل حران وسهول سروج، جفت غالبية الأنهار والينابيع المتدفقة إلى الأراضي السورية على مدى آلاف السنين؛ نتيجة الممارسات التركية، حيث جفت أنهار “الساجور شمال مدينة منبج، البليخ بين مدينة كري سبي/تل أبيض والرقة، الخابور وروافده في إقليم الجزيرة”.
في المعظم تضخ تركيا الكمية الضئيلة لمياه نهر الفرات حالياً من سدودها لتوليد الطاقة الكهربائية، بمعنىً أوضح إذ لم تتمكن تركيا من ضخ المياه فلن تستطيع توفير الطاقة الكهربائية.
سد أليسو المثير للجدل
بدأت تركيا في حزيران/يونيو عام 2018 ملء الخزان المائي في بحيرة سد أليسو بسعة قصوى تصل إلى 20 مليار متر مكعب من المياه.
وقد اعلنت الدولة التركية افتتاح سد اليسو (على نهر دجلة) رسمياً في 6 تشرين الثاني/نوفمبر الجاري، في منطقة ماردين في شمال كردستان، حيث بدأت بتشييده عام 2006.
أثار بناء السد مخاوف العراق حول حصة الأخيرة من المياه في ظل المشاكل المتعلقة بالأمن المائي التي عانت منها خلال الأعوام الأخيرة، وخاصة أن عملية بناء السد واحتجاز المياه أثر على المسطحات المائية في أهوار العراق.
حيث ذكر مركز جاثام هواش البريطاني للأبحاث في الـ4 من شهر أيلول/سبتمبر الجاري أن سياسات تركيا وإيران أدت لخسارة العراق 40% من مياها، وأشار المركز أن “منطقة الشرق الأوسط تحتوي على 6.3% من سكان العالم، وأن 1.4% فقط يتمتعون بمياه شربٍ نظيفة.
وكان خبير البيئة الألماني أولريش إيشيلمان، قد وصف السد الاصطناعي بأنه “فعلٌ همجي في القرن الحادي والعشرين”، والذي أمضى لسنوات في العمل على تنسيق مقاومة دولية لمنع بناء السد حتى عام 2010.
أزمة المياه تضاف إلى الأوضاع الكارثية خلال سنوات الحرب في سوريا
تغذي شمال وشرق سوريا ثلاثة سدود على نهر الفرات، وهم سد تشرين جنوب شرق مدينة منبج، وسد الفرات أكبر السدود السورية بالقرب من مدينة الطبقة وسد الحرية بالقرب من مدينة الرقة.
تعتبر نسبة المياه التي تدخل الأراضي السورية قادمة من الخارج 70%، إذ يشكل الفرات شريان الحياة لملايين السوريين من إقليم الفرات شمالي البلاد ومناطق أخرى كالرقة ودير الزور بالإضافة إلى تزويد ثاني أكبر مدينة في البلاد وهي حلب بمياه الشرب.
يروي النهر على ضفتيه في سوريا مساحة تقدر بـ900 ألف هكتار من الأراضي المزروعة بالحبوب، أهمها القمح إلى جانب البساتين وأشجار الفاكهة بحسب عددٍ من لجان وهيئات الزراعة في مناطق مختلفة، لكن 400 ألف هكتار من الأراضي بقيت من دون مياه منذ صيف عام 2020.
وفي ظل الحصار الاقتصادي المطبق على شمال وشرق سوريا؛ يؤثر الانحسار المرعب لمجرى نهر الفرات؛ على الانتاج المحلي الذي يحقق جزءً كبيراً من الاكتفاء الذاتي.
تحتاج السدود المياه بمعدل 300 متر مكعب في الثانية، لتوليد الطاقة الكهربائية كأدنى معدل يمكن من خلاله تشغيل عنفة واحدة من سد تشرين أو سد الفرات وتوليد الكهرباء بطاقة 105 ميغا واط ساعي، في حين أن الكمية القادمة هي 200 متر مكعب في الثانية وأحيانا تتدنى لـ 125 متر مكعب في الثانية.
ولا تتوفر إحصائيات دقيقة حول أعداد صيادي السمك على طول مجرى النهر في سوريا، إلا أن مئات الصيادين القرويين اللذين يستخدمون طرق شرعية وغير شرعية في اصطياد الأسماك، يعانون من نفوق كميات هائلة من الأسماك بعد تقلص عرض مجرى النهر 2 كم، وهو مصدر رزقهم الوحيد، وبالتالي العطل عن العمل في ظل الأوضاع المعيشية الصعبة فيما يلحق انخفاض منسوب المياه أضراراً بالثروة السمكية.
في سوريا وبحسب سكان القرى على ضفاف نهر الفرات فإن الجفاف هو الاسوأ منذ الثمانينيات فيما يؤكد خبراء صرحوا لوسائل إعلام عراقية أن الجفاف هو الأسوأ منذ 40 عاماً يضرب نهري الفرات ودجلة سوياً.
المصدر: ANHA.